للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حَقًا وَلم يصل لَهُ رحما وَلَا بر لَهُ والدا فَإِن الْبَاعِث على هَذِه الافعال إِمَّا ديني وَهُوَ رَجَاء عَاقبَتهَا الحميدة وَإِمَّا دُنْيَوِيّ علوي وَهُوَ حَيَاء فاعلها من الْخلق قد تبين انه لَوْلَا الْحيَاء إِمَّا من الْخَالِق اَوْ من الْخَلَائق لم يَفْعَلهَا صَاحبهَا وَفِي التِّرْمِذِيّ وَغَيره مَرْفُوعا اسْتَحْيوا من الله حق الْحيَاء قَالُوا وَمَا حق الْحيَاء قَالَ ان تحفظ الراس وَمَا حوى والبطن وَمَا وعى وتذكر الْمَقَابِر والبلى وَقَالَ إِذا لم تستح فَاصْنَعْ مَا شِئْت وَأَصَح الْقَوْلَيْنِ فِيهِ قَول ابي عبيد والاكثرين انه تهديد كَقَوْلِه تَعَالَى {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} وَقَوله {كلوا وتمتعوا قَلِيلا} وَقَالَت طَائِفَة هُوَ إِذن وَإِبَاحَة وَالْمعْنَى إِنَّك اذا اردت ان تفعل فعلا فَانْظُر قبل فعله فَإِن كَانَ مِمَّا يستحيا فِيهِ من الله وَمن النَّاس فَلَا تَفْعَلهُ وَإِن كَانَ مِمَّا لَا يستحيا مِنْهُ فافعله فَإِنَّهُ لَيْسَ بقبيح وَعِنْدِي ان هَذَا الْكَلَام صُورَة صرة الطّلب وَمَعْنَاهُ معنى الْخَبَر وَهُوَ فِي قُوَّة قَوْلهم من لَا يستحى صنع مَا يشتهى فَلَيْسَ بِإِذن وَلَا هُوَ مُجَرّد تهديد وَإِنَّمَا هُوَ فِي معنى الْخَبَر وَالْمعْنَى ان الرادع عَن الْقَبِيح إِنَّمَا هُوَ الْحيَاء فَمن لم يستح فَإِنَّهُ يصنع ماشاء وَإِخْرَاج هَذَا الْمَعْنى فِي صِيغَة الطّلب لنكته بديعة جدا وَهِي ان للانسان آمرين وزاجرين آمروزاجر من جِهَة الْحيَاء فَإِذا اطاعه امْتنع من فعل كل مَا يَشْتَهِي وَله آمُر وزاجر من جِهَة الْهوى والطبيعة فَمن لم يطع آمُر الْحيَاء وزاجره اطاع آمُر الْهوى والشهوة وَلَا بُد فإخراج الْكَلَام فِي قالب الطّلب يتَضَمَّن هَذَا الْمَعْنى دون ان يُقَال من لَا يستحي صنع مَا يَشْتَهِي

تَنْبِيه ثمَّ تَأمل نعْمَة الله على الانسان بالبيانين الْبَيَان النطقي وَالْبَيَان الخطي وَقد اعْتد بهما سُبْحَانَهُ فِي جملَة من اعْتد بِهِ من نعمه على العَبْد فَقَالَ فِي أول سُورَة انزلت على رَسُول الله {اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق خلق الْإِنْسَان من علق اقْرَأ وَرَبك الأكرم الَّذِي علم بالقلم علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم} فَتَأمل كَيفَ جمع فِي هَذِه الْكَلِمَات مَرَاتِب الْخلق كلهَا وَكَيف تَضَمَّنت مَرَاتِب الوجودات الاربعة بأوجز لفظ واوضحه واحسنه فَذكر أَولا عُمُوم الْخلق وَهُوَ إعطاءالوجود الْخَارِجِي ثمَّ ذكر ثَانِيًا خُصُوص خلق الانسان لانه مَوضِع الْعبْرَة والاية فِيهِ عَظِيمَة وَمن شُهُوده عَمَّا فِيهِ مَحْض تعدد النعم وَذكر مَادَّة خلقه هَا هُنَا من الْعلقَة وَفِي سَائِر الْمَوَاضِع يذكر مَا هُوَ سَابق عَلَيْهَا إِمَّا مَادَّة الاصل وَهُوَ التُّرَاب والطين اَوْ الصلصال الَّذِي كالفخار اَوْ مَادَّة الْفَرْع وَهُوَ المَاء المهين وَذكر فِي هَذَا الْموضع اول مبادئ تعلق التخليق وَهُوَ الْعلقَة فَإِنَّهُ كَانَ قبلهَا نُطْفَة فَأول انتقالها إِنَّمَا هُوَ الى الْعلقَة ثمَّ ذكر ثَالِثا التَّعْلِيم بالقلم الَّذِي هُوَ من اعظم نعمه على عباده إِذْ بِهِ تخلد الْعُلُوم وَتثبت الْحُقُوق وَتعلم الْوَصَايَا وَتحفظ الشَّهَادَات ويضبط حِسَاب الْمُعَامَلَات الْوَاقِعَة بَين النَّاس وَبِه تقيد اخبار الماضين للباقين اللاحقين وَلَوْلَا الْكِتَابَة لانقطعت اخبار بعض الازمنة عَن بعض ودرست السّنَن وتخبطت الاحكام وَلم يعرف

<<  <  ج: ص:  >  >>