وَإِن كَانَ خبيثا فِي حَال الِاخْتِيَار قيل هَذَا مَوضِع دَقِيق وتحقيقه بستدعي اطلاعا على أسرار الشَّرِيعَة والطبيعة فَلَا تستهونه وأعطه حَقه من النّظر والتأمل وَقد اخْتلف النَّاس فِيهِ على قَوْلَيْنِ فكثير مِنْهُم أَو أَكْثَرهم سلك مسالك التَّرْجِيح مَعَ بَقَاء وصف الْخبث فِيهِ وَقَالَ مصلحَة حفظ النَّفس أرجح من مفْسدَة خبث التغذية وَهَذِه قَول من لم يُحَقّق النّظر ويمعن التَّأَمُّل بل استرسل مَعَ ظَاهر الْأُمُور وَالصَّوَاب أَن وصف الْخبث مُنْتَفٍ حَال الِاضْطِرَار وكشف الغطاء عَن الْمَسْأَلَة أَن وصف الْخبث غير مُسْتَقل بِنَفسِهِ فِي الْمحل المتفذي بِهِ بل هُوَ متولد من الْقَابِل وَالْفَاعِل فَهُوَ حَاصِل من المتفذي والمفتذي بِهِ وَنَظِيره تَأْثِير السم فِي الْبدن هُوَ مَوْقُوف على الْفَاعِل وَالْمحل الْقَابِل إِذا علم ذَلِك فَتَنَاول هَذِه الْخَبَائِث فِي حَال الِاخْتِيَار يُوجب حُصُول الْأَثر الْمَطْلُوب عَدمه فَإِذا كَانَ المتناول لَهَا مُضْطَرّا فَإِن ضَرُورَته تمنع قبُول الْخبث الَّذِي فِي المفتذي بِهِ فَلم تحصل تِلْكَ الْمفْسدَة لِأَنَّهَا مَشْرُوطَة بِالِاخْتِيَارِ الَّذِي بِهِ يقبل الْمحل خبث التغذية فَإِذا زَالَ الِاخْتِيَار زَالَ شَرط الْقبُول فَلم تحصل الْمفْسدَة أصلا وَإِن اعتاص هَذَا على فهمك فَانْظُر فِي الأغذية والأشربة الضارة الَّتِي لَا يخْتَلف عَنْهَا الضَّرَر إِذا تنَاولهَا الْمُخْتَار الْوَاجِد لغَيْرهَا فَإِذا اشتدت ضَرُورَته إِلَيْهَا وَلم يجد مِنْهَا بدا فَإِنَّهَا تَنْفَعهُ وَلَا يتَوَلَّد لَهُ مِنْهَا ضَرَر أصلا لِأَن قبُول طَبِيعَته لَهَا وفاقته إِلَيْهَا وميله مَنعه من التضرر بهَا بِخِلَاف حَال الِاخْتِيَار وأمثلة ذَلِك مَعْلُومَة مَشْهُودَة بالحس فَإِذا كَانَ هَذَا فِي الْأَوْصَاف الحسية المؤثرة فِي محالها بالحس فَمَا الظَّن بالأوصاف المعنوية الَّتِي تأثيرها إِنَّمَا يعلم بِالْعقلِ أَو بِالشَّرْعِ فَلَا تظن أَن الضَّرُورَة أزالت وصف الْمحل وبدلته فَأَنا لم تقل هَذَا وَلَا يَقُوله عَاقل وَإِنَّمَا الضَّرُورَة منعت تَأْثِير الْوَصْف وأبطلته فَهِيَ من بَاب الْمَانِع الَّذِي يمْنَع تَأْثِير الْمُقْتَضى لَا أَنه يزِيل قوته أَلا ترى أَن السَّيْف الحاد إِذا صَادف حجرا فَإِنَّهُ يمْنَع قطعه وتأثيره لِأَنَّهُ يزِيل حِدته وتهيأه لقطع الْقَابِل وَنَظِير هَذَا الملابس الْمُحرمَة إِذا اضْطر إِلَيْهَا فَإِن ضَرُورَته تمنع ترَتّب الْمفْسدَة الَّتِي حرمت لأَجلهَا فَإِن قَالَ فَهَذَا ينْتَقض عَلَيْكُم بِتَحْرِيم نِكَاح الْأمة فَإِنَّهُ حرم للمفسدة الَّتِي تتضمنه من ارقاق وَلَده ثمَّ أُبِيح عِنْد الضَّرُورَة إِلَيْهِ وَهِي خوف الْعنَّة الَّذِي هُوَ اعظم فَسَادًا من ارقاق الْوَلَد وَمَعَ هَذَا فالمفسدة قَائِمَة بِعَينهَا وَلَكِن عارضها مصلحَة حفظ الْفرج عَن الْحَرَام وَهِي أرجح عِنْد الشَّارِع من رق الْوَلَد قيل هَذَا لَا ينْتَقض بِمَا قَرَّرْنَاهُ فَإِن الله سُبْحَانَهُ لم حرم نِكَاح الْأمة لما فِيهِ من مفْسدَة رق الْوَلَد واشتغال الْأمة بِخِدْمَة سَيِّدهَا فَلَا يحصل لزَوجهَا من السكن إِلَيْهَا والإيواء ودوام المعاشرة مَا تقر بِهِ عينه وتسكن بِهِ نَفسه أَبَاحَهُ عِنْد الْحَاجة إِلَيْهِ بِأَن لَا يقدر على نِكَاح حرَّة ويخشى على نَفسه مواقعة الْمَحْظُور وَكَانَت الْمصلحَة لَهُ فِي نِكَاحهَا فِي هَذِه الْحَال أرجح من تِلْكَ الْمَفَاسِد
وَلَيْسَ هَذَا حَال ضَرُورَة يُبَاح لَهَا الْمَحْظُور فَأن الله سُبْحَانَهُ لَا يضْطَر عَبده إِلَى الْجِمَاع بِحَيْثُ أَن لم يُجَامع مَاتَ بِخِلَاف الطَّعَام وَالشرَاب وَلِهَذَا لَا يُبَاح الزِّنَا بضرورة كَمَا يُبَاح الْخِنْزِير
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute