للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

برأسك وغسلت رجليك إِلَى الْكَعْبَيْنِ اغْتَسَلت من عَامَّة خطاياك فَإِن أَنْت وضعت وَجهك لله خرجت من خطاياك كَيَوْم وَلدتك أمك رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالْأَحَادِيث فِي هَذَا الْبَاب كَثِيرَة فاقتضت حِكْمَة أحكم الْحَاكِمين وَرَحمته أَن شرع الْوضُوء على هَذِه الْأَعْضَاء الَّتِي هِيَ أَكثر الْأَعْضَاء مُبَاشرَة للمعاصي وَهِي الْأَعْضَاء الظَّاهِرَة البارزة للغبار والوسخ أَيْضا وَهِي أسهل الْأَعْضَاء غسلا فَلَا يشق تكْرَار غسلهَا فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة فَكَانَت الْحِكْمَة الباهرة فِي شرع الْوضُوء عَلَيْهَا دون سَائِر الْأَعْضَاء وَهَذَا يدل على أَن الْمَضْمَضَة من آكِد أَعْضَاء الْوضُوء وَلِهَذَا كَانَ النَّبِي يداوم عَلَيْهَا وَلم ينْقل عَنهُ بِإِسْنَاد قطّ أَنه أخل بهَا يَوْمًا وَاحِدًا وَهَذَا يدل على أَنَّهَا فرض لَا يَصح الْوضُوء بِدُونِهَا كَمَا هُوَ الصَّحِيح من مَذْهَب أَحْمد وَغَيره من السّلف فَمن سوى بَين هَذِه الْأَعْضَاء وَغَيرهَا وَجعل تَعْيِينهَا بِمُجَرَّد الْأَمر الْخَالِي عَن الْحِكْمَة والمصلحة فقد ذهب مذهبا فَاسِدا فَكيف إِذا زعم مَعَ ذَلِك أَنه لَا فرق فِي نفس الْأَمر بَين التَّعَبُّد بذلك وَبَين أَن يتعبد بِالنَّجَاسَةِ وأنواع الأقذار والأوساخ والأنتان والرائحة الكريهة وَيجْعَل ذَلِك مَكَان الطَّهَارَة وَالْوُضُوء وَأَن الْأَمريْنِ سَوَاء وَإِنَّمَا يحكم بِمُجَرَّد الْمَشِيئَة بِهَذَا الْأَمر دون ضِدّه وَلَا فرق بَينهمَا فِي نفس الْأَمر وَهَذَا قَول تصَوره كَاف فِي الْجَزْم بِبُطْلَانِهِ وَجَمِيع مسَائِل الشَّرِيعَة كَذَلِك آيَات بَيِّنَات ودلالات واضحات وشواهد ناطقات بِأَن الَّذِي شرعها لَهُ الْحِكْمَة الْبَالِغَة وَالْعلم الْمُحِيط وَالرَّحْمَة والعناية بعباده وَإِرَادَة الصّلاح لَهُم وسوقهم بهَا إِلَى كمالهم وعواقبهم الحميدة وَقد نبه سُبْحَانَهُ عباده على هَذَا فَقَالَ يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ إِلَى قَوْله {مَا يُرِيد الله ليجعل عَلَيْكُم من حرج وَلَكِن يُرِيد ليطهركم وليتم نعْمَته عَلَيْكُم لَعَلَّكُمْ تشكرون} فَأخْبر سُبْحَانَهُ أَنه لم يَأْمُرهُم بذلك حرجا عَلَيْهِم وتضييقا ومشقة وَلَكِن إِرَادَة تطهيرهم وإتمام نعْمَته عَلَيْهِم ليشكروه على ذَلِك فَلهُ الْحَمد كَمَا هُوَ أَهله وكما يَنْبَغِي لكرم وَجهه وَعز جَلَاله فَإِن قيل فَمَا جوابكم عَن الْأَدِلَّة الَّتِي ذكرهَا نفاة التحسين والتقبيح على كثرتها

قيل قد كفونا بِحَمْد الله مُؤنَة إِبْطَالهَا بقدحهم فِيهَا وَقد أبطلها كلهَا وَاعْترض عَلَيْهَا فضلاء اتباعها وأصحابها أَبُو عبد الله ابْن الْخَطِيب وَأَبُو الْحُسَيْن الآمدى وَاعْتمد كل مِنْهُم على مَسْلَك من أفسد المسالك وَاعْتمد القَاضِي على مَسْلَك من جنسهما فِي الْمَفَاسِد فاعتمد هَؤُلَاءِ الْفُضَلَاء على ثَلَاث مسالك فَاسِدَة وتعرضوا لإبطال مَا سواهَا والقدح فِيهِ وَنحن نذْكر مسالكهم الَّتِي اعتمدوا عَلَيْهَا ونبين فَسَادهَا وبطلانها فَأَما ابْن الْخَطِيب فاعتمد على المسلك الْمَشْهُور وَهُوَ أَن فعل العَبْد غير اخْتِيَاري وَمَا لَيْسَ بِفعل اخْتِيَاري لَا يكون حسنا وَلَا قبيحا عقلا بالِاتِّفَاقِ لِأَن الْقَائِلين بالْحسنِ والقبح العقليين يعترفون بِأَنَّهُ إِنَّمَا يكون كَذَلِك إِذا كَانَ اختياريا وَقد ثَبت أَنه اضطراري فَلَا يُوصف بِحسن وَلَا قبح على المذهبين أما بَيَان كَونه غير اخْتِيَاري

<<  <  ج: ص:  >  >>