للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَحفظ النَّوْع الإنساني ثمَّ صَار قبيحا لما اسْتغنى عَنهُ فحرمه على عباده فأباحه فِي وَقت كَانَ فِيهِ حسنا وَحرمه فِي وَقت صَار فِيهِ قبيحا وَكَذَلِكَ كل مَا نسخه من الشَّرْع بل الشَّرِيعَة الْوَاحِدَة كلهَا لَا تخرج عَن هَذَا وَإِن خَفِي وَجه الْمصلحَة والمفسدة فِيهِ على أَكثر النَّاس وَكَذَلِكَ إِبَاحَة الْغَنَائِم كَانَ قبيحا فِي حق من قبلنَا لِئَلَّا تحملهم إباحتها على الْقِتَال لأَجلهَا وَالْعَمَل لغير الله فتفوت عَلَيْهِم مصلحَة الْإِخْلَاص الَّتِي هِيَ أعظم الْمصَالح فحمى أحكم الْحَاكِمين جَانب هَذِه الْمصلحَة الْعَظِيمَة بتحريمها عَلَيْهِم ليتمحض قِتَالهمْ لله لَا للدنيا فَكَانَت الْمصلحَة فِي حَقهم تَحْرِيمهَا عَلَيْهِم ثمَّ لما أوجد هَذِه الْأمة الَّتِي هِيَ أكمل الْأُمَم عقولا وأرسخهم إِيمَانًا وأعظمهم توحيدا وإخلاصا وأرغبهم فِي الْآخِرَة وأزهدهم فِي الدُّنْيَا أَبَاحَ لَهُم الْغَنَائِم وَكَانَت إباحتها حَسَنَة بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِم وَإِن كَانَت قبحة بِالنِّسْبَةِ إِلَى من قبلهم فَكَانَت كإباحة الطَّبِيب اللَّحْم للصحيح الَّذِي لَا يخْشَى عَلَيْهِ من مضرته وحميته مِنْهُ للْمَرِيض المحموم وَهَذَا الحكم فِيمَا شرع فِي الشَّرِيعَة الْوَاحِدَة فِي وَقت ثمَّ نسخ فِي وَقت آخر كالتخيير فِي الصَّوْم فِي أول الْإِسْلَام بَين الْإِطْعَام وَبَينه لما كَانَ غير مألوف لَهُم وَلَا مُعْتَاد والطباع تأباه إِذْ هُوَ هجر مألوفها ومحبوبها وَلم تذق بعد حلاوته وعواقبه المحمودة وَمَا فِي طيه من الْمصَالح وَالْمَنَافِع فخيرت بَينه وَبَين الْإِطْعَام وندبت إِلَيْهِ فَلَمَّا عرفت علته يَعْنِي حكمته وَالْفِقْه وَعرفت مَا تضمنه من الْمصَالح والفوائد حتم عَلَيْهَا عينا وَلم يقبل مِنْهَا سَوَاء فَكَانَ التَّخْيِير فِي وقته مصلحَة وَتَعْيِين الصَّوْم فِي وقته مصلحَة فاقتضت الْحِكْمَة الْبَالِغَة شرع كل حكم فِي وقته لِأَن الْمصلحَة فِيهِ فِي ذَلِك الْوَقْت وَكَانَ فرض الصَّلَاة أَولا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ لما كَانُوا حَدِيثي عهد بِالْإِسْلَامِ وَلم يَكُونُوا معتادين لَهَا وَلَا ألفتها طباعهم وعقولهم فرضت عَلَيْهِم بِوَصْف التَّخْفِيف فَلَمَّا ذالت بهَا جوارحهم وطوعت بهَا أنفسهم وأطمأنت اليها قُلُوبهم وباشرت نعيمها لذتها وطيبها وذاقت حلاوة عبودية الله فِيهَا وَلَذَّة مناجاته زيدت ضعفها وأقرت فِي السّفر على الْفَرْض الأول لحَاجَة الْمُسَافِر إِلَى التَّخْفِيف ولمشقة السّفر عَلَيْهِ فَتَأمل كَيفَ جَاءَ كل حكم فِي وقته مطابقا للْمصْلحَة وَالْحكمَة شَاهدا لله بِأَنَّهُ أحكم الْحَاكِمين وأرحم الرَّاحِمِينَ الَّذِي بهرت حكمته الْعُقُول والألباب وبدا على صفحاتها بِأَن مَا خالفها هُوَ الْبَاطِل وَأَنَّهَا هِيَ عين الْمصلحَة وَالصَّوَاب وَمن هَذَا أمره سُبْحَانَهُ لَهُم بالأعراض عَن الْكَافرين وَترك آذاهم وَالصَّبْر عَلَيْهِم وَالْعَفو عَنْهُم لما كَانَ ذَلِك عين الْمصلحَة لقلَّة عدد الْمُسلمين وَضعف شوكتهم وَغَلَبَة عدوهم فَكَانَ هَذَا فِي حَقهم إِذْ ذَاك عين الْمصلحَة فَلَمَّا تحيزوا إِلَى دَار وَكثر عَددهمْ وقويت شوكتهم وتجرأت أنفسهم لمناجزة عدوهم أذن لَهُم فِي ذَلِك أذنا من غير إِيجَاب عَلَيْهِم ليذيقهم حلاوة النَّصْر وَالظفر وَعز الْغَلَبَة وَكَانَ الْجِهَاد أشق شَيْء على النُّفُوس فَجعله أَولا إِلَى اختيارهم إِذْنا لاحتما فَلَمَّا ذاقوا عز النَّصْر

<<  <  ج: ص:  >  >>