للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

البواعث والدواعي وَأَسْبَاب الميول الَّتِي تحصل لفاعل الْإِحْسَان ومنقذ الغريق والحريق وَمَا يُنجى الْهَالِك لَا ينافى مَا عَلَيْهِ هَذِه الْأَفْعَال فِي ذواتها من الصِّفَات الَّتِي تَقْتَضِي حسنها وقبح أضدادها

الْوَجْه الْخَامِس وَالْعشْرُونَ قَوْلكُم أَنه يقدر نَفسه فِي تِلْكَ الْحَال وَتَقْدِيره غَيره معرضًا عَن الانقاذ فيستقبحه مِنْهُ لمُخَالفَته غَرَضه فَيدْفَع عَن نَفسه ذَلِك الْقبْح المتوهم فَيُقَال هَذَا الْقبْح المتوهم إِنَّمَا نَشأ عَن الْقبْح الْمُحَقق فِي ترك الْإِحْسَان إِلَيْهِ مَعَ قدرته عَلَيْهِ وَعدم تضرره بِهِ فالقبح مُحَقّق فِي ترك إنقاذه ومتوهم فِي تَصْوِيره نَفسه بِتِلْكَ الْحَال وَعدم إنقاذه غَيره لَهُ فلولا تِلْكَ الْحَقِيقَة لم يحكم الْعقل بِهَذَا الْقبْح الموهوم وَكَون الانقاذ مُوَافقا للغرض وَتَركه مُخَالفا لَهُ لَا يَنْبَغِي أَن يكون فِي ذَاته حسنا وقبيحا ملائما وَافق الْغَرَض أَو خَالفه لما اتصفت بِهِ ذَاته من الصِّفَات الْمُقْتَضِيَة لهَذِهِ الْمُوَافقَة والمخالفة الْوَجْه السَّادِس وَالْعشْرُونَ قَوْلكُم فَلَو فرض هَذَا فِي بَهِيمَة أَو شخص لارقة فِيهِ فَيبقى أَمر آخر وَهُوَ طلب الثَّنَاء على إحسانه فَيُقَال طلب الثَّنَاء يَقْتَضِي أَن هَذَا الْفِعْل مِمَّا يتَعَلَّق بِهِ الثَّنَاء وَمَا ذَاك أَلا لِأَنَّهُ فِي نَفسه على صفة تَقْتَضِي الثَّنَاء على فَاعله وَلَو كَانَ هَذَا الْفِعْل مُسَاوِيا لضده فِي نفس الْأَمر لم يتَعَلَّق الثَّنَاء بِهِ والذم بضده وَفعله لتوقع الثَّنَاء لَا ينفى أَن يكون على صفة لأَجلهَا اسْتحق فَاعله الثَّنَاء بل هُوَ باقتضاء ذَلِك أولى من نَفْيه

الْوَجْه السَّابِع وَالْعشْرُونَ قَوْلكُم فان فرض فِي مَوضِع يَسْتَحِيل أَن يعلم فَيبقى ميل وترجيح يضاهي نفرة طبع السَّلِيم عَن الْحَبل وَذَلِكَ أَنه رأى هَذِه الصُّورَة مقرونة بالثناء فيظن أَن الثَّنَاء مقرون بهَا بِكُل حَال كَمَا أَنه لما رأى الْأَذَى مَقْرُونا بِصُورَة الْحَبل وطبعه ينفر عَن الْأَذَى فينفر عَن المقرون بِهِ فالمقرون باللذيذ لذيذ والمقرون بالمكروه مَكْرُوه فَيُقَال يَا عجبا كَيفَ يرد أعظم الْإِحْسَان الَّذِي فطر الله عقول عباده وفطرهم على إحسانه حَتَّى لَو تصور نطق الْحَيَوَان البهيم لشهد باستحسانه إِلَى مُجَرّد وهم وخيال فَاسد يشبه نفرة طبع الرجل السَّلِيم عَن حَبل مرقش فَتَأمل كَيفَ يحمل نفرة الآراء المتقلدة وَبَعض مخالفتها على أَمْثَال هَذِه الشنع وَهل سوى الله سُبْحَانَهُ فِي الْعُقُول وَالْفطر بَين إنقاذ الغريق والحريق وتخليص الْأَسير من عدوه واحياء النُّفُوس وَبَين نفرة طبع السَّلِيم عَن حَبل مرقش لتوهمه أَنه حَيَّة وَقد كَانَ مُجَرّد تصور هَذِه الشُّبْهَة كَافِيا فِي الْعلم ببطلانها وَلَكنَّا زِدْنَا الْأَمر إيضاحا وبيانا

الْوَجْه الثَّامِن وَالْعشْرُونَ قَوْلكُم الْإِنْسَان إِذا جَالس من عشقه فِي مَكَان فَإِذا انْتهى إِلَيْهِ أحس فِي نَفسه تَفْرِقَة بَين ذَلِك الْمَكَان وَغَيره واستشهادكم على ذَلِك بقول الشَّاعِر أَمر على الديار ديار ليلى ... وَقَوله

وحبب أوطان الرِّجَال إِلَيْهِم ... فَيُقَال لَا ريب أَن الْأَمر هَكَذَا وَلَكِن هَل يلْزم من هَذَا اسْتِوَاء الصدْق وَالْكذب فِي نفس الْأَمر واستواء الْعدْل وَالظُّلم وَالْبر والفجور وَالْإِحْسَان والإساءة بل هَذَا الْمِثَال نَفسه حجَّة عَلَيْكُم فانه لم يمل طبعه

<<  <  ج: ص:  >  >>