فَإِنَّهُ تَعَالَى يقدر على مقدورات تمنع بِحِكْمَتِهِ كقدرته على قِيَامه السَّاعَة الْآن وَقدرته على إرْسَال الرُّسُل بعد النَّبِي وَقدرته على إبقائهم بَين ظُهُور الْأمة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَقدرته على أماتة إِبْلِيس وَجُنُوده واراحة الْعَالم مِنْهُم وَقد ذكر سُبْحَانَهُ فِي الْقُرْآن قدرته على مَا لَا يَفْعَله لحكمته فِي غير مَوضِع كَقَوْلِه تَعَالَى {قل هُوَ الْقَادِر على أَن يبْعَث عَلَيْكُم عذَابا من فَوْقكُم أَو من تَحت أَرْجُلكُم} وَقَوله تَعَالَى {وأنزلنا من السَّمَاء مَاء بِقدر فأسكناه فِي الأَرْض وَإِنَّا على ذهَاب بِهِ لقادرون} وَقَوله أيحسب الْإِنْسَان أَن لن نجمع عِظَامه بلَى قَادِرين على أَن نسوي بنانه أَي نَجْعَلهَا كخف الْبَعِير صفحة وَاحِدَة وَقَوله تَعَالَى {وَلَو شِئْنَا لآتينا كل نفس هداها وَلَكِن حق القَوْل مني} وَقَوله {لآمن من فِي الأَرْض كلهم جَمِيعًا} وَقَوله {وَلَو شَاءَ رَبك لجعل النَّاس أمة وَاحِدَة} فَهَذِهِ وَغَيرهَا مقدورات لَهُ سُبْحَانَهُ وانما امْتنعت لكَمَال حكمته فَهِيَ الَّتِي اقْتَضَت عدم وُقُوعهَا فَلَا يلْزم من كَون الشَّيْء مَقْدُورًا أَن يكون حسنا مُوَافقا للحكمة وعَلى هَذَا فقدرته تبَارك وَتَعَالَى على مَا ذكرْتُمْ لَا تقتصي حسنه وموافقته لحكمته وَنحن إِنَّمَا نتكلم مَعَهم فِي الثَّانِي لَا فِي الأول فَالْكَلَام فِي الحكمه يَقْتَضِي الْحِكْمَة
والعناية غير الْكَلَام فِي الْمَقْدُور فَتعلق الْحِكْمَة شَيْء ومتعلق الْقُدْرَة شَيْء وَلَكِن انتم إِنَّمَا لويتم من إِنْكَار الْحِكْمَة فَلَا يمكنكم التَّفْرِيق بَين المتعلقين بل قد اعْترف سلفكم وأئمتكم بِأَن الْحِكْمَة لَا تخرج عَن صِحَة تعلقه بالمقدور ومطابقته لَهَا أَو تعلق الْعلم بالمعلوم ومطابقته لَهُ وَلما بنيتم على هَذَا الأَصْل لم يمكنكم الْفرق بَين مُوجب الْحِكْمَة وَمُوجب الْقُدْرَة فتوعرت عَلَيْكُم الطَّرِيق وألجأتم أَنفسكُم إِلَى اصعب مضيق
الْوَجْه الثَّالِث وَالْأَرْبَعُونَ قَوْلكُم أَنه تَعَالَى لَو ألْقى إِلَى العَبْد زِمَام الِاخْتِيَار وَتَركه يفعل مَا يَشَاء جَريا على رسوم طبعه المائل إِلَى لذيذ الشَّهَوَات ثمَّ أجزل لَهُ فِي الْعَطاء من غير حِسَاب كَانَ أروح للْعَبد وَلم يكن قبيحا عِنْد الْعقل فَيُقَال لكم مَا تعنون بإلقاء زِمَام الِاخْتِيَار إِلَيْهِ أتعنون بِهِ أَنه لَا يكلفه وَلَا يَأْمُرهُ وَلَا ينهاه بل يَجعله كالبهيمة السَّائِمَة الْمُهْملَة أم تعنون بِهِ أَنه يلقى إِلَيْهِ زِمَام الِاخْتِيَار مَعَ تَكْلِيفه وَأمره وَنَهْيه فان عنيتم الأول فَهُوَ من أقبح شَيْء فِي الْعقل وأعظمه نقصا فِي الْآدَمِيّ وَلَو ترك ورسوم طبعه لكَانَتْ الْبَهَائِم أكمل مِنْهُ وَلم يكن مكرما مفضلا على كثير مِمَّن خلق الله تَفْضِيلًا بل كَانَ كثير من الْمَخْلُوقَات أَو أَكْثَرهَا مفضلا عَلَيْهِ فانه يكون مصدودا عَن كَمَاله الَّذِي هُوَ مستعد لَهُ قَابل لَهُ وَذَلِكَ أَسْوَأ حَالا وَأعظم نقصا مِمَّا منع كمالا لَيْسَ قَابلا لَهُ
وَتَأمل حَال الْآدَمِيّ المخلى ورسوم طبعه الْمَتْرُوك ودواعي هَوَاهُ كَيفَ تجه فِي شرار الخليقة وأفسدها للْعَالم وَلَوْلَا من يَأْخُذ على يَدَيْهِ لأهْلك الْحَرْث والنسل وَكَانَ شرا من الْخَنَازِير والذئاب والحيات فَكيف يَسْتَوِي فِي الْعقل أمره وَنَهْيه بِمَا فِيهِ صَلَاحه وَصَلَاح غَيره بِهِ وَتَركه وَمَا فِيهِ أعظم فَسَاده وَفَسَاد النَّوْع وَغَيره بِهِ وَكَيف لَا يكون هَذَا القَوْل قبيحا وَأي قبح أعظم
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute