للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هَذَا الِاخْتِيَار لَا ينافى التَّكْلِيف وَلَا يكون إِلَّا بِهِ بِوَجْه بل لَا يَصح التَّكْلِيف إِلَّا بِهِ

الْوَجْه السَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ قَوْلكُم فقد تعَارض الْأَمْرَانِ أَحدهمَا أَن يكلفهم فيأمر وَينْهى حَتَّى يطاع ويعصى ثمَّ يثيبهم ويعاقبهم الثَّانِي أَن لَا يكلفهم إِذْ لَا يتزين مِنْهُم بِطَاعَة وَلَا تشينه معصيتهم وَإِذا تعَارض فِي الْمَعْقُول هَذَانِ الْأَمْرَانِ فَكيف يهدي الْعقل إِلَى اخْتِيَار أَحدهمَا عقلا فَكيف يعرفنا الْوُجُوب على نَفسه بالمعرفة وعَلى الْجَوَارِح بِالطَّاعَةِ وعَلى الرب تَعَالَى بالثواب

فَيُقَال لكم لم يتعارض بِحَمْد الله الْأَمْرَانِ لِأَن أَحدهمَا قد علم قبحه فِي الْمَعْقُول وَالْآخر قد علم حسنه فِي الْمَعْقُول فَكيف يتعارض فِي الْعقل جَوَاز الْأَمريْنِ وَأَن يكون نسبتهما إِلَى الرب تَعَالَى نِسْبَة وَاحِدَة وانما يتعارض الجائزات على كل سَوَاء بِحَيْثُ لَا يتَرَجَّح بَعْضهَا عَن بعض فَأَما الْحسن والقبح فَلم يتعارض فِي الْعقل قطّ استواؤهما وَقد قَررنَا مِمَّا لَا مدفع لَهُ قبح التّرْك سدى بِمَنْزِلَة الْأَنْعَام السَّائِمَة وَحسن الْأَمر والنهى وأستصلاحهم فِي معاشهم ومعادهم فَكيف يُقَال أَن هذَيْن الْأَمريْنِ سَوَاء فِي الْعقل بِحَيْثُ يتعارضان فِيهِ وَيقْضى باستوائهما بِالنِّسْبَةِ إِلَى أحكم الْحَاكِمين فان قيل إِنَّمَا تَعَارضا فِي المقدورية إِذْ نِسْبَة الْقُدْرَة إِلَيْهِمَا وَاحِدَة قُلْنَا قد تقدم أَنه لَا يلْزم من كَون الشَّيْء مَقْدُورًا أَن لَا يكون مُمْتَنعا لمنافاته الْحِكْمَة وَقد بَينا ذَلِك قَرِيبا فَيكون تَركهم هملا وسدى مَقْدُورًا للرب تَعَالَى لَا يَقْتَضِي معارضته لمقدوره الآخر فِي تكليفهم وَأمرهمْ ونهيهم

الْوَجْه الثَّامِن وَالْأَرْبَعُونَ قَوْلكُم إِذْ لَا يتزين مِنْهُم بِطَاعَة وَلَا تشيئه معصيتهم {قُلْنَا} وَمن الَّذِي نَازع فِي هَذَا وَلَكِن حسن التَّكْلِيف لَا ينفى ذَلِك عَن الرب تَعَالَى وَأَنه إِنَّمَا يكلفهم تَكْلِيف من لَا يبلغُوا ضره فيضروه وَلَا يبلغُوا نَفعه فينفعوه وَأَنَّهُمْ لَو كَانُوا كلهم على أتقى قلب رجل وَاحِد مِنْهُم مَا زَاد ذَلِك فِي ملكه شَيْئا وَلَو كَانُوا على أفجر قلب رجل وَاحِد مِنْهُم مَا نقص ذَلِك فِي ملكه شَيْئا وَهَهُنَا اخْتلفت الطّرق بِالنَّاسِ فِي عِلّة التَّكْلِيف وحكمته مَعَ كَونه سُبْحَانَهُ لَا ينْتَفع بطاعتهم وَلَا تضره معصيتهم فسلكت الجبرية مسلكها الْمَعْرُوف وَأَن ذَلِك صادر عَن مَحْض الْمَشِيئَة وَصرف الْإِرَادَة وَأَنه لَا عِلّة لَهُ وَلَا باعث عَلَيْهِ سوى مَحْض الْإِرَادَة وسلكت الْقَدَرِيَّة مسلكها الْمَعْرُوف وَهل ذَلِك إِلَّا اسْتِئْجَار مِنْهُ لعبيده لينالوا أجرهم بِالْعَمَلِ فَيكون ألذ من اقتضائهم الثَّوَاب بِلَا عمل لما فِيهِ من تكدير الْمِنَّة والمسلكان كَمَا ترى وحسبك مَا يدل عَلَيْهِ الْعقل الصَّرِيح وَالنَّقْل الصَّحِيح من بطلانهما وفسادهما وَلَيْسَ عِنْد النَّاس غير هذَيْن المسلكين إِلَّا مَسْلَك من هُوَ خَارج عَن الديانَات وَاتِّبَاع الرُّسُل مِمَّن يرى أَن الشَّرَائِع وضعت نواميس يقوم عَلَيْهَا مصلحَة النَّاس ومعيشتهم فان فائدتها تَكْمِيل قُوَّة النَّفس وَالْحكمَة وَهَذَا مَسْلَك خَارج عَن مناهج الْأَنْبِيَاء وأممهم وَأما أَتبَاع الرُّسُل الَّذين هم أهل البصائر فحكمة الله عز وَجل فِي تكليفهم مَا كلفهم بِهِ أعظم وَأجل عِنْدهم مِمَّا يخْطر بالبال أَو يجْرِي بِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>