للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمقَال وَيشْهدُونَ لَهُ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِك بالحكم الباهرة والأسرار الْعَظِيمَة أَكثر مِمَّا يشهدونه فِي مخلوقاته وَمَا تضمنته وَمن الْأَسْرَار وَالْحكم ويعلمون مَعَ ذَلِك أَنه لَا نِسْبَة لما أطلعهم سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ من ذَلِك إِلَى مَا طوى علمه عَنْهُم واستأثر بِهِ دونهم وَأَن حكمته فِي أمره وَنَهْيه وتكليفهم أجل وَأعظم مِمَّا تُطِيقهُ عقول الْبشر فهم يعبدونه سُبْحَانَهُ بأَمْره وَنَهْيه لِأَنَّهُ تَعَالَى أهل أَن يعبد وَأهل أَن يكون الْحبّ كُله لَهُ وَالْعِبَادَة كلهَا لَهُ حَتَّى لَو لم يخلق جنَّة وَلَا نَارا وَلَا وضع ثَوابًا وَلَا عقَابا لَكَانَ أَهلا أَن يعبد أقْصَى مَا تناله قدرَة خلقه من الْعِبَادَة وَفِي بعض الْآثَار الإلهية لَو لم أخلق جنَّة وَلَا نَارا ألم أكن أَهلا أَن أعبد حَتَّى أَنه لَو قدر أَنه لم يُرْسل رسله وَلم ينزل كتبه لَكَانَ فِي الْفطْرَة وَالْعقل مَا يَقْتَضِي شكره وأفراده بِالْعبَادَة كَمَا أَن فيهمَا مَا يَقْتَضِي الْمَنَافِع وَاجْتنَاب المضار وَلَا فرق بَينهمَا فِي الْفطْرَة وَالْعقل فان الله فطر خليقته على محبته والأقبالعليه وابتغاء الْوَسِيلَة إِلَيْهِ وَأَنه لَا شَيْء على الْإِطْلَاق أحب إِلَيْهِمَا مِنْهُ وان فَسدتْ فطر أَكثر الْخلق بِمَا طَرَأَ عَلَيْهَا مِمَّا اقتطعها واجتالها عَمَّا خلق فِيهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى {فأقم وَجهك للدّين حَنِيفا فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا} فَبين سُبْحَانَهُ أَن إِقَامَة الْوَجْه وَهُوَ إخلاص الْقَصْد وبذل الوسع لدينِهِ المتضمن محبته وعبادته حَنِيفا مُقبلا عَلَيْهِ معرضًا عَمَّا سواهُ هُوَ فطرته الَّتِي فطر عَلَيْهَا عباده فَلَو خلوا ودواعي فطرهم لما رَغِبُوا عَن ذَلِك وَلَا اخْتَارُوا سواهُ وَلَكِن غيرت الْفطر وأفسدت كَمَا قَالَ النَّبِي مَا من مَوْلُود إِلَّا يُولد على الْفطْرَة فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ ويمجسانه كَمَا تنْتج الْبَهِيمَة بَهِيمَة جَمْعَاء هَل تُحِسُّونَ فِيهَا من جَدْعَاء حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُم تجدعونها ثمَّ يَقُول أَبُو هُرَيْرَة اقرأوا أَن شِئْتُم {فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لخلق الله ذَلِك الدّين الْقيم وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ منيبين إِلَيْهِ واتقوه} ومنيبين نصب على الْحَال من الْمَفْعُول أَي فطرهم منيبين إِلَيْهِ والإنابة إِلَيْهِ تَتَضَمَّن الإقبال عَلَيْهِ بمحبته وَحده والأعراض عَمَّا سواهُ وَفِي صَحِيح مُسلم عَن عِيَاض بن حَمَّاد عَن النَّبِي قَالَ أَن الله أَمرنِي أَن أعلمكُم مَا جهلتم مِمَّا عَلمنِي فِي مقَامي هَذَا أَنه قَالَ كل مَال نحلته عبدا فَهُوَ لَهُ حَلَال واني خلقت عبَادي حنفَاء فأتتهم الشَّيَاطِين فَاجْتَالَتْهُمْ عَن دينهم وأمرتهم أَن يشركوا بِي مَا لم أنزل بِهِ سُلْطَانا وَحرمت عَلَيْهِم مَا أحللت لَهُم فَأخْبر سُبْحَانَهُ أَنه إِنَّمَا فطر عباده على الحنيفة المتضمنة لكَمَال حبه والخضوع لَهُ والذل لَهُ وَكَمَال طَاعَته وَحده دون غَيره وَهَذَا من الْحق الَّذِي خلقت لَهُ وَبِه قَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا وَعَلِيهِ قَامَ الْعَالم ولأجله خلقت الْجنَّة وَالنَّار ولأجله أرسل رسله وَأنزل كتبه ولأجله هلك الْقُرُون الَّتِي خرجت عَنهُ وآثرت غَيره فكونه سُبْحَانَهُ أَهلا أَن يعبد وَيُحب ويحمد ويثني عَلَيْهِ أَمر ثَابت لَهُ لذاته فَلَا يكون إِلَّا كَذَلِك كَمَا أَن الْغنى الْقَادِر الْحَيّ القيوم السَّمِيع الْبَصِير فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْإِلَه الْحق الْمُبين والإله هُوَ الَّذِي يسْتَحق أَن يوله محبَّة

<<  <  ج: ص:  >  >>