للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هَل هُوَ نَافِع كَذَا ملائم لَهُ أَو منافر مؤذ وَهل هُوَ حَار أَو بَارِد وَهل هُوَ رطب أَو يَابِس وَهل فِيهِ قُوَّة تصلح لأمر من الْأُمُور أَولا قُوَّة فِيهِ وَمَعَ هَذَا فالاختلاف الْمَذْكُور لَا ينفى عِنْد الْعُقَلَاء مَا جعل فِي الأغذية والأدوية من القوى وَالْمَنَافِع والمضار والكيفيات لِأَن سَبَب الِاخْتِلَاف خَفَاء تِلْكَ الْأَوْصَاف على بعض الْعُقَلَاء ودفنها وَعجز الْحس وَالْعقل عَن تمييزها وَمَعْرِفَة مقاديرها وَالنّسب الْوَاقِعَة بَين كيفياتها وطبائعها وَلم يكن هَذَا الِاخْتِلَاف بِمُوجب عِنْد أحد من الْعُقَلَاء إِنْكَار جملَة الْعلم وَجُمْهُور قَوَاعِده ومسائله دَعْوَى أَنه مَا من وصف يستنبط من دَوَاء مُفْرد أَو مركب أَو من غذَاء إِلَّا وَفِي الْعقل مَا يُعَارضهُ فيتحير الْعقل وَلَو ادّعى هَذَا مُدع لضحك مِنْهُ الْعُقَلَاء مِمَّا علموه بِالضَّرُورَةِ والحس من ملاءمة الْأَوْصَاف ومنافرتها واقتضاء تِلْكَ الذوات للمنافع والمضار فِي الْغَالِب وَلَا يكون اخْتِلَاف بعض الْعُقَلَاء يُوجب إِنْكَار مَا علم بِالضَّرُورَةِ والحس فَهَكَذَا الشَّرَائِع

الْوَجْه الرَّابِع وَالْخَمْسُونَ أَن قَوْلكُم إِذا قتل إِنْسَان انسانا عرض لِلْعَقْلِ هَاهُنَا آراء متعارضة مُخْتَلفَة إِلَى آخِره فَيُقَال أَن أردتم أَن الْعقل يُسَوِّي بَين مَا شَرعه الله من الْقصاص وَبَين تَركه لمصْلحَة الْجَانِي فبهت لِلْعَقْلِ وَكذب عَلَيْهِ فانه لَا يَسْتَوِي عِنْد عَاقل قطّ حسن الِاخْتِصَاص من الْجَانِي بِمثل مَا فعل وَحسن تَركه والأعراض عَنهُ وَلَا يعلم عقل صَحِيح يسوى بَين الْأَمريْنِ وَكَيف يَسْتَوِي أَمْرَانِ أَحدهمَا يسْتَلْزم فَسَاد النَّوْع وخراب الْعَالم وَترك الِانْتِصَار للمظلوم وتمكين الجناة من الْبَغي والعدوان

وَالثَّانِي يسْتَلْزم صَلَاح النَّوْع وَعمارَة الْعَالم والانتصار للمظلوم وردع الجناة والبغاة والمعتدين فَكَانَ فِي الْقصاص حَيَاة الْعَالم وَصَلَاح الْوُجُود وَقد نبه تَعَالَى على ذَلِك بقوله وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة يَا أولى الْأَلْبَاب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون وَفِي ضمن هَذَا الْخطاب مَا هُوَ كالجواب لسؤال مُقَدّر أَن إعدام هَذِه البنية الشَّرِيفَة وإيلام هَذِه النَّفس وإعدامها فِي مُقَابلَة إعدام الْمَقْتُول تَكْثِير لمفسدة الْقَتْل فلأية حِكْمَة صدر هَذَا مِمَّن وسعت رَحمته كل شَيْء وبهرت حكمته الْعُقُول فتضمن الْخطاب جَوَاب ذَلِك بقوله تَعَالَى وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة وَذَلِكَ لِأَن الْقَاتِل إِذا توهم أَنه يقتل قصاصا بِمن قَتله كف عَن الْقَتْل وارتدع وآثر حب حَيَاته وَنَفسه فَكَانَ فِيهِ حَيَاة لَهُ وَلمن أَرَادَ قَتله وَمن وَجه آخر وَهُوَ أَنهم كَانُوا إِذا قتل الرجل من عشيرتهم وقبيلتهم قتلوا بِهِ كل من وجدوه من عشيرة الْقَاتِل وحيه وقبيلته وَكَانَ فِي ذَلِك من الْفساد والهلاك مَا يعم ضَرَره وتشتد مُؤْنَته فشرع الله تَعَالَى الْقصاص وَأَن لَا يقتل بالمقتول غير قَاتله فَفِي ذَلِك حَيَاة عشيرته وحيه وأقاربه وَلم تكن الْحَيَاة فِي الْقصاص من حَيْثُ أَنه قتل بل من حَيْثُ كَونه قصاصا يُؤْخَذ الْقَاتِل وَحده بالمقتول لَا غَيره فتضمن الْقصاص الْحَيَاة فِي الْوَجْهَيْنِ وَتَأمل مَا تَحت هَذِه الْأَلْفَاظ الشَّرِيفَة من الْجَلالَة والإيجاز والبلاغة والفصاحة وَالْمعْنَى

<<  <  ج: ص:  >  >>