للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْعَظِيم فصدر الْآيَة بقوله لكم الْمُؤَذّن بِأَن مَنْفَعَة الْقصاص مُخْتَصَّة بكم عَائِدَة إِلَيْكُم فشرعه إِنَّمَا كَانَ رَحْمَة بكم وإحسانا إِلَيْكُم فمنفعته ومصلحته لكم لَا لمن لَا يبلغ الْعباد ضره ونفعه ثمَّ عقبه بقوله فِي الْقصاص إِيذَانًا بِأَن الْحَيَاة الْحَاصِلَة إِنَّمَا هِيَ فِي الْعدْل وَهُوَ أَن يفعل بِهِ كَمَا فعل وَالْقصاص فِي اللُّغَة الْمُمَاثلَة وَحَقِيقَته رَاجِعَة إِلَى الِاتِّبَاع وَمِنْه قَوْله تَعَالَى وَقَالَت لأخته قصيه أَي اتبعي أَثَره وَمِنْه قَوْله فارتدا على آثارهما قصصا أَي يقصان الْأَثر ويتبعانه وَمِنْه قصّ الحَدِيث واقتصاصه لِأَنَّهُ يتبع بعضه بَعْضًا فِي الذّكر فَسمى جَزَاء الْجَانِي قصاصا لِأَنَّهُ يتبع أَثَره فيفعل بِهِ كَمَا فعل وَهَذَا أحد مَا يسْتَدلّ بِهِ على أَن يفعل بالجاني كَمَا فعل فَيقْتل بِمثل مَا قتل بِهِ لتحقيق معنى الْقصاص وَقد ذكرنَا أَدِلَّة الْمَسْأَلَة من الطَّرفَيْنِ وترجيح القَوْل الرَّاجِح بِالنَّصِّ والأثر والمعقول فِي كتاب تَهْذِيب السّنَن ونكر سُبْحَانَهُ الْحَيَاة تَعْظِيمًا وتفخيما لشأنها وَلَيْسَ المُرَاد حَيَاة مَا بل الْمَعْنى أَن فِي الْقصاص حُصُول هَذِه الْحَقِيقَة المحبوبة للنفوس المؤثرة عِنْدهَا المستحسنة فِي كل عقل والتنكير كثيرا مَا يَجِيء للتعظيم والتفخيم كَقَوْلِه وسارعوا إِلَى مغْفرَة من ربكُم وجنة وَقَوله ورضوان من الله أكبر وَقَوله أَن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى ثمَّ خص أولى الْأَلْبَاب وهم أولو الْعُقُول الَّتِي عقلت عَن الله أمره وَنَهْيه وحكمته إِذْ هم المنتفعون بِالْخِطَابِ ووازن بَين هَذِه الْكَلِمَات وَبَين قَوْلهم الْقَتْل أنفى للْقَتْل ليتبين مِقْدَار التَّفَاوُت وعظمة الْقُرْآن وجلالته

الْوَجْه الْخَامِس وَالْخَمْسُونَ قَوْلكُم أَن الْقصاص اتلاف بأزاء اتلاف وعدوان فِي مُقَابلَة عدوان وَلَا يحيا الأول بقتل الثَّانِي فَفِيهِ تَكْثِير الْمفْسدَة بإعدام النفسين وَأما مصلحَة الردع والزجر واستبقاء النَّوْع فَأمر متوهم وَفِي الْقصاص اسْتِهْلَاك مُحَقّق فَيُقَال هَذَا الْكَلَام من أفسد الْكَلَام وأبينه بطلانا فانه يتَضَمَّن التَّسْوِيَة بَين الْقَبِيح وَالْحسن وَنفى حسن الْقصاص الَّذِي اتّفقت الْعُقُول والديانات على حسنه وَصَلَاح الْوُجُود بِهِ وَهل يَسْتَوِي فِي عقل أَو دين أَو فطْرَة الْقَتْل ظلما وعدوانا بِغَيْر حق وَالْقَتْل قصاصا وَجَزَاء بِحَق وَنَظِير هَذِه التَّسْوِيَة تَسْوِيَة الْمُشْركين بَين الرِّبَا وَالْبيع لِاسْتِوَائِهِمَا فِي صُورَة العقد وَمَعْلُوم أَن اسْتِوَاء الْفِعْلَيْنِ فِي الصُّورَة لَا يُوجب استواءهما فِي الْحَقِيقَة ومدعى ذَلِك فِي غَايَة المكابرة وَهل يدل اسْتِوَاء السُّجُود لله وَالسُّجُود للصنم فِي الصُّورَة الظَّاهِرَة وَهُوَ وضع الْجَبْهَة على الارض على أَنَّهُمَا سَوَاء فِي الْحَقِيقَة حق يتحير الْعقل بَينهمَا ويتعارضان فِيهِ ويكفى فِي فَسَاد هَذَا أطباق الْعُقَلَاء قاطبة على قبح الْقَتْل الَّذِي هُوَ ظلم وبغى وعدوان وَحسن الْقَتْل الَّذِي هُوَ جَزَاء وقصاص وردع وزجر وَالْفرق بَين هذَيْن مثل الْفرق بَين الزِّنَا وَالنِّكَاح بل أعظم وَأظْهر بل الْفرق بَينهمَا من جنس الْفرق بَين الْإِصْلَاح فِي الأَرْض والإفساد فِيهَا فَمَا تعَارض فِي عقل صَحِيح قطّ هَذَانِ الْأَمْرَانِ حَتَّى يتحير بَينهمَا أَيهمَا يؤثره ويختاره وقولكم أَنه

<<  <  ج: ص:  >  >>