للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

السّمع إِلَى إِدْرَاك الْأَصْوَات وكنسبة الذَّوْق إِلَى إِدْرَاك الطعوم والشم إِلَى إِدْرَاك الروائح فَهَل يسوغ لعاقل أَنا يدعى أَن هَذِه المدركات من أوضاع الْحَواس وَكَذَلِكَ الْعقل إِذا أدْرك مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ الْكَذِب والفجور وخراب الْعَالم وَالظُّلم واهلاك الْحَرْث والنسل وَالزِّنَا بالأمهات وَغير ذَلِك من القبائح وَأدْركَ مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ الصدْق وَالْبر وَالْإِحْسَان وَالْعدْل وشكران الْمُنعم والعفة وَفعل كل جميل من الْحسن لم تكن تِلْكَ الْمعَانِي الَّتِي اشْتَمَلت عَلَيْهَا هَذِه الْأَفْعَال مُجَرّد وضع الذِّهْن واستنباط الْعقل ومدعي ذَلِك مصاب فِي عقله فان الْمعَانِي الَّتِي اشْتَمَلت عَلَيْهَا المنهيات الْمُوجبَة لتحريمها أُمُور ناشئة من الْأَفْعَال لَيست أوضاعا ذهنية والمعاني الَّتِي اشْتَمَلت عَلَيْهَا المأمورات الْمُوجبَة لحسنها لَيست مُجَرّد أوضاع ذهنية بل أُمُور حَقِيقِيَّة ناشئة من ذَوَات الْأَفْعَال ترَتّب آثارها عَلَيْهَا كترتب آثَار الْأَدْوِيَة والأغذية عَلَيْهَا وَمَا نَظِير هَذِه الْمقَالة إِلَّا مقَالَة من يزْعم أَن القوى والْآثَار المستنبطة من الأغذية والأدوية لَا حَقِيقَة لَهَا إِنَّمَا هِيَ أوضاع ذهنية وَمَعْلُوم أَن هَذَا بَاب من السفسطة فاعرض مَعَاني الشَّرِيعَة الْكُلية على عقلك وَانْظُر ارتباطها بأفعالها وتعلقها بهَا ثمَّ تَأمل هَل تجدها أمورا حَقِيقِيَّة تنشأ من الْأَفْعَال فَإِذا فعل الْفِعْل نَشأ مِنْهُ أَثَره أَو تجدها أوضاعا ذهنية لَا حَقِيقَة لَهَا وَإِذا أردْت معرفَة بطلَان الْمقَالة فكرر النّظر فِي أدلتها فأدلتها من أكبر الشواهد على بُطْلَانهَا بل الْعَاقِل يَسْتَغْنِي بأدلة الْبَاطِل عَن إِقَامَة الدَّلِيل على بُطْلَانه بل نفس دَلِيله هُوَ دَلِيل بُطْلَانه

الْوَجْه الثَّانِي أَن استنباط الْعُقُول وَوضع الأذهان لما لَا حَقِيقَة لَهُ من بَاب الخيالات والتقديرات الَّتِي لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا علم وَلَا مَعْلُوم وَلَا صَلَاح وَلَا فَسَاد إِذْ هِيَ خيالات مُجَرّدَة وأوهام مقدرَة كوضع الذِّهْن سَائِر مَا يَضَعهُ من المقدرات الذهنية وَمَعْلُوم أَن الْمعَانِي المستنبطة من الْأَحْكَام هِيَ من أجل الْمَعْلُوم ومعلومها من أشرف المعلومات وأنفعها للعباد وَهِي منشأ مصالحهم فِي معاشهم ومعادهم وترتب آثارها عَلَيْهَا مشهود فِي الْخَارِج مَعْقُول فِي الْفطر قَائِم فِي الْعُقُول فَكيف يدعى أَنه مُجَرّد وضع ذهني لَا حَقِيقَة لَهُ

الْوَجْه الثَّالِث أَن استنباط الذِّهْن لما يستنبطه من الْمعَانِي واعتقاده أَن الْأَفْعَال مُشْتَمِلَة عَلَيْهَا مَعَ كَون الْأَمر لَيْسَ كَذَلِك جهل مركب واعتقاد بَاطِل فانه إِذا اعْتقد أَن الْأَفْعَال مُشْتَمِلَة على تِلْكَ الْمعَانِي وَإِنَّهَا منشأها وَلَيْسَ كَذَلِك كَانَ اعتقادا للشَّيْء بِخِلَاف مَا هُوَ بِهِ وَهَذَا غَايَة الْجَهْل فَكيف يَدعِي هَذَا فِي اشرف الْعُلُوم وأزكاها وأنفعها وَأَعْظَمهَا متضمنا لمصَالح الْعباد فِي المعاش والمعاد وَهل هُوَ الا لب الشَّرِيعَة ومضمونها فَكيف يسوغ أَن يدعى فِيهَا هَذَا الْبَاطِل ويرمى بِهَذَا الْبُهْتَان

وَبِالْجُمْلَةِ فبطلان هَذَا القَوْل أظهر من أَن يتَكَلَّف رده وَلم يقل هَذَا القَوْل من شم للفقه رَائِحَة أصلا الْوَجْه التَّاسِع وَالْخَمْسُونَ قَوْلكُم لَو كَانَت صِفَات نفسية للْفِعْل لزم من ذَلِك أَن تكون

<<  <  ج: ص:  >  >>