للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يرَوا ذَلِك ظلما بقوله تَعَالَى {لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون} وَبقول النَّبِي أَن الله لَو عذب أهل سماواته وَأهل أرضه لعذبهم وَهُوَ غير ظَالِم لَهُم وَبِقَوْلِهِ فِي دُعَاء الْهم والحزن اللَّهُمَّ أَنى عَبدك وَابْن عَبدك مَاض فِي حكمك عدل فِي قضاؤك وَبِمَا روى عَن اياس بن مُعَاوِيَة قَالَ مَا ناظرت بعقلي كُله أحدا إِلَّا الْقَدَرِيَّة قلت لَهُم مَا الظُّلم قَالُوا أَن تَأْخُذ مَا لَيْسَ لَك أَو أَن تتصرف فِيمَا لَيْسَ لَك قلت فَللَّه كل شَيْء وَالْتزم هَؤُلَاءِ عَن هَذَا القَوْل لَوَازِم بَاطِلَة كَقَوْلِهِم أَن الله تَعَالَى يجوز عَلَيْهِ أَن يعذب أنبياءه وَرُسُله وَمَلَائِكَته وأولياءه وَأهل طَاعَته ويخلدهم فِي الْعَذَاب اليم وَيكرم أعداءه من الْكفَّار وَالْمُشْرِكين وَالشَّيَاطِين ويخصهم بجنته وكرامته وَكِلَاهُمَا عدل وَجَائِز عَلَيْهِ وَأَنه يعلم أَنه لَا يفعل ذَلِك بِمُجَرَّد خَبره فَصَارَ مُمْتَنعا لإخباره أَنه لَا يَفْعَله لَا لمنافاته حكمته وَلَا فرق بَين المرين بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَلَكِن أَرَادَ هَذَا وَأخْبر بِهِ وَأَرَادَ الآخر وَأخْبر بِهِ فَوَجَبَ هَذَا لارادته وَخَبره وَامْتنع ضِدّه لعدم إِرَادَته واختياره بِأَن لَا يكون والتزموا لَهُ أَيْضا أَنه يجوز أَن يعذب الْأَطْفَال الَّذين لَا ذَنْب لَهُم أصلا ويخلدهم فِي الْجَحِيم وَرُبمَا قَالُوا بِوُقُوع ذَلِك فَأنْكر على الطَّائِفَتَيْنِ مَعًا أَصْحَاب التَّفْسِير الثَّالِث وَقَالُوا الصَّوَاب الَّذِي دلّت عَلَيْهِ النُّصُوص أَن الظُّلم الَّذِي حرمه الله على نَفسه وتنزه عَنهُ فعلا وارادة هُوَ مَا فسره بِهِ سلف الْأمة وأئمتها أَنه لَا يحمل الْمَرْء سيئات غَيره وَلَا يعذب بِمَا لم تكسب يَدَاهُ وَلم يكن سعى فِيهِ وَلَا ينقص من حَسَنَاته فَلَا يجازي بهَا أَو بِبَعْضِهَا إِذا قارنها أَو طَرَأَ عَلَيْهَا مَا يَقْتَضِي إِبْطَالهَا أَو اقتصاص المظلومين مِنْهَا وَهَذَا الظُّلم الَّذِي نفى الله تَعَالَى خَوفه عَن العَبْد بقوله {وَمن يعْمل من الصَّالِحَات وَهُوَ مُؤمن فَلَا يخَاف ظلما وَلَا هضما} قَالَ السّلف والمفسرون لَا يخَاف أَن يحمل عَلَيْهِ من سيئات غَيره وَلَا ينقص من حَسَنَاته مَا يتَحَمَّل فَهَذَا هُوَ الْعُقُول من الظُّلم وَمن عدم خَوفه وَأما الْجمع بَين النقيضين وقلب الْقَدِيم مُحدثا والمحدث قَدِيما فمما يتنزه كَلَام آحَاد الْعُقَلَاء عَن تَسْمِيَته ظلما وَعَن نفي خَوفه عَن العَبْد فَكيف بِكَلَام رب الْعَالمين وَكَذَلِكَ قَوْله {وَمَا ظلمناهم وَلَكِن كَانُوا هم الظَّالِمين} فنفى أَن يكون تعذيبه لَهُم ظلما ثمَّ أخبر أَنهم هم الظَّالِمُونَ بكفرهم وَلَو كَانَ الظُّلم الْمَنْفِيّ هُوَ الْمحَال لم يحسن مُقَابلَة قَوْله وَمَا ظلمناهم بقوله وَلَكِن كَانُوا هم الظَّالِمين بل يَقْتَضِي الْكَلَام أَن يُقَال مَا ظلمناهم وَلَكِن تصرفنا فِي ملكنا وعبيدنا فَلَمَّا نفى الظُّلم عَن نَفسه وأثبته لَهُم دلّ على أَن الظُّلم الْمَنْفِيّ أَن يعذبهم بِغَيْر جرم وَأَنه إِنَّمَا عذبهم بجرمهم وظلمهم وَلَا تحْتَمل الْآيَة غير هَذَا وَلَا يجوز تَحْرِيف كَلَام الله لنصر المقالات وَقَالَ تَعَالَى {وَمن يعْمل من الصَّالِحَات من ذكر أَو أُنْثَى وَهُوَ مُؤمن فَأُولَئِك يدْخلُونَ الْجنَّة وَلَا يظْلمُونَ نقيرا} وَلَا ريب أَن هَذَا مَذْكُور فِي سِيَاق التحريض على الْأَعْمَال الصَّالِحَة والاستكثار مِنْهَا فان صَاحبهَا يَجْزِي بهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>