للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْعَقْلِيَّة وَمِنْهُم من يَقُول أَن الْغَايَة الْمَقْصُودَة الَّتِي يحصل بهَا الثَّوَاب هِيَ الْعَمَل وَالْعلم وَسِيلَة إِلَيْهِ حَتَّى رُبمَا قَالُوا ذَلِك فِي معرفَة الله تَعَالَى وَأَنَّهَا إِنَّمَا وَجَبت لِأَنَّهَا لطف فِي أَدَاء الْوَاجِبَات العملية وَهَذِه الْأَقْوَال تصور الْعَاقِل اللبيب لَهَا حق التَّصَوُّر كَاف فِي جزمه ببطلانها رَافع عَنهُ مُؤنَة الرَّد عَلَيْهَا وَالْوُجُوه الدَّالَّة على بُطْلَانهَا أَكثر من أَن تذكر هَاهُنَا

الطَّرِيق الثَّالِث طَرِيق الجبرية وَمن وافقهم أَن الله سُبْحَانَهُ امتحن عباده بذلك وكلفهم لَا لحكمة وَلَا لغاية مَطْلُوبَة لَهُ وَلَا بِسَبَب من الْأَسْبَاب فَلَا لَام تَعْلِيل وَلَا بَاء سَبَب أَن هُوَ إِلَّا مَحْض الْمَشِيئَة وَصرف الْإِرَادَة كَمَا قَالُوا فِي الْخلق سَوَاء وَهَؤُلَاء قابلوا من قبلهم من الْقَدَرِيَّة والمعتزلة أعظم مُقَابلَة فهما طرفا نقيض لَا يَلْتَقِيَانِ وَالطَّرِيق الرَّابِع طَرِيق أهل الْعلم والأيمان الَّذين عقلوا عَن الله أمره وَدينه وَعرفُوا مُرَاده بِمَا أَمرهم ونهاهم عَنهُ وَهِي أَن نفس معرفَة الله ومحبته وطاعته والتقرب إِلَيْهِ وابتغاء الْوَسِيلَة إِلَيْهِ أَمر مَقْصُود لذاته وَأَن الله سُبْحَانَهُ يسْتَحقّهُ لذاته وَهُوَ سُبْحَانَهُ المحبوب لذاته الَّذِي لَا تصلح الْعِبَادَة والمحبة والذل والخضوع والتأله إِلَّا لَهُ فَهُوَ يسْتَحق ذَلِك لِأَنَّهُ أهل أَن يعبد وَلَو لم يخلق جنَّة وَلَا نَارا وَلَو لم يضع ثَوابًا وَلَا عقَابا كَمَا جَاءَ فِي بعض الْآثَار لَو لم أخلق جنَّة وَلَا نَارا أما كنت أَهلا أَن أعبد فَهُوَ سُبْحَانَهُ يسْتَحق غَايَة الْحبّ وَالطَّاعَة وَالثنَاء وَالْمجد والتعظيم لذاته وَلما لَهُ من أَوْصَاف الْكَمَال ونعوت الْجلَال وحبه والرضى بِهِ وَعنهُ والذل لَهُ والخضوع والتعبد هُوَ غَايَة سَعَادَة النَّفس وكمالها وَالنَّفس إِذا فقدت ذَلِك كَانَت بِمَنْزِلَة الْجَسَد الَّذِي فقد روحه وحياته وَالْعين الَّتِي فقدت ضوءها ونورها بل أَسْوَأ حَالا من ذَلِك من وَجْهَيْن:

أَحدهمَا أَن غَايَة الْجَسَد إِذا فقد روحه أَن يصير معطلا مَيتا وَكَذَلِكَ الْعين تصير معطلة وَأما النَّفس إِذا فقدت كمالها الْمَذْكُور فَأَنَّهَا تبقى معذبة متألمة وَكلما اشْتَدَّ حجابها اشْتَدَّ عَذَابهَا وألمها وَشَاهد هَذَا مَا يجده الْمُحب الصَّادِق الْمحبَّة من الْعَذَاب والألم عِنْد احتجاب محبوبه عَنهُ وَلَا سِيمَا إِذا يئس من قربه وحظى غَيره بحبه وَوَصله هَذَا مَعَ إِمْكَان التعوض عَنهُ بمحبوب آخر نَظِيره أَو خير مِنْهُ فَكيف بِروح فقدت محبوبها الْحق الَّذِي لم تخلق إِلَّا لمحبته وَلَا كَمَال لَهَا وَلَا صَلَاح أصلا إِلَّا بِأَن يكون أحب إِلَيْهَا من كل مَا سواهُ وَهُوَ محبوبها الَّذِي لَا تعوض مِنْهُ سواهُ بِوَجْه مَا كَمَا قَالَ الْقَائِل:

من كل شَيْء إِذا ضيعته عوض ... وَمَا من الله أَن ضيعته عوض

وَلَو لم يكن احتجابه سُبْحَانَهُ عَن عَبده أَشد أَنْوَاع الْعَذَاب عَلَيْهِ لم يتوعد بِهِ أعداءه كَمَا قَالَ تَعَالَى كلا انهم عَن رَبهم يؤمئذ لمحجوبون ثمَّ انهم لصالو الْجَحِيم فَأخْبر أَن لَهُم عذابين أَحدهمَا عَذَاب الْحجاب عَنهُ وَالثَّانِي صلى الْجَحِيم وَأحد العذابين أَشد من الآخر وَهَذَا كَمَا أَنه سُبْحَانَهُ ينعم على أوليائه بنعيمين نعيم كشف الْحجاب فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ ونعيم الْجنَّة وَمَا فِيهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>