وَأحد النعيمين أحب إِلَيْهِم من الآخر وآثر عِنْدهم وَأقر لعيونهم كَمَا فِي الصَّحِيح عَنهُ أَنه قَالَ إِذا دخل أهل الْجنَّة نَادَى مناديا أهل الْجنَّة أَن لكم عِنْد الله موعدا يُرِيد أَن ينجزكموه فَيَقُولُونَ مَا هُوَ ألم يبيض وُجُوهنَا ويثقل موازيننا ويدخلنا الْجنَّة ويجرنا من النَّار قَالَ فَيكْشف الْحجاب فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَمَا أَعْطَاهُم شَيْئا أحب إِلَيْهِم من النّظر إِلَيْهِ وَفِي حَدِيث غير هَذَا أَنهم إِذا نظرُوا إِلَيّ رَبهم تبَارك وَتَعَالَى أنساهم لَذَّة النّظر إِلَيْهِ مَا هم فِيهِ من النَّعيم
وَالْوَجْه الثَّانِي أَن الْبدن والأعضاء آلَات للنَّفس ورعية للقلب وخدم لَهُ فَإِذا فقد بَعضهم كَمَاله الَّذِي خلق لَهُ كَانَ بِمَنْزِلَة هَلَاك بعض جند الْملك ورعيته وتعطل بعض آلاته وَقد لَا يلْحق الْملك من ذَلِك ضَرَر أصلا وَأما إِذا فقد الْقلب كَمَاله الَّذِي خلق لَهُ وحياته ونعيمه كَانَ بِمَنْزِلَة هَلَاك الْملك وأسره وَذَهَاب ملكه من يَدَيْهِ وصيرورته أَسِيرًا فِي أَيدي أعاديه فَهَكَذَا الرّوح إِذا عدمت كمالها وصلاحها فِي معرفَة فاطرها وبارئها وَكَونه أحب شَيْء إِلَيْهَا رِضَاهُ وابتغاء الْوَسِيلَة إِلَيْهِ آثر شَيْء عِنْدهَا حَتَّى يكون اهتمامها بمحبته ومرضاته اهتمام الْمُحب التَّام الْمحبَّة بمرضاة محبوبه الَّذِي لَا يجد مِنْهُ عوضا كَانَت بِمَنْزِلَة الْملك الَّذِي ذهب مِنْهُ ملكه وَأصْبح أَسِيرًا فِي يَدي أعاديه يسومونه سوء الْعَذَاب وَهَذَا الْأَلَم كامن فِي النَّفس لَكِن يستره ستر الشَّهَوَات ويواريه حجاب الْغَفْلَة حَتَّى إِذا كشف الغطاء وحيل بَين العَبْد وَبَين مَا يشتهى وجد حَقِيقَة ذَلِك الْأَلَم وذاق طعمه وتجرد ألمه عَمَّا يَحْجُبهُ ويواريه وَهَذَا أَمر يدْرك بالعيان والتجربة فِي هَذِه الدَّار تكون الْأَسْبَاب المؤلمة للروح وَالْبدن مَوْجُودَة مقتضية لآثارها وَلَكِن يقوم للقلب من فرحه بحظ ناله من مَال أَو جاه أَو وصال حبيب مَا يوارى عَنهُ شُهُود الْأَلَم وَرُبمَا لَا يشْعر بِهِ أصلا فَإِذا زَالَ الْمعَارض ذاق طعم الْأَلَم وَوجد مَسّه وَمن اعْتبر أَحْوَال نَفسه وَغَيره علم ذَلِك فَإِذا كَانَ هَذَا فِي هَذِه الدَّار فَمَا الظَّن عِنْد الْمُفَارقَة والفطام عَن الدُّنْيَا والانتقال إِلَيّ الله والمصير إِلَيْهِ فَلْيتَأَمَّل الْعَاقِل الفطن الناصح لنَفسِهِ هَذَا الْموضع حق التَّأَمُّل وليشغل بِهِ كل أفكاره فان فهمه وعقله وَاسْتمرّ إعراضه
فَمَا تبلغ الْأَعْدَاء من جَاهِل ... مَا يبلغ الْجَاهِل من نَفسه
وان لم يفهمهُ لغلظ حجابه وكثافة طبعه فيكفيه الْأَيْمَان بِمَا أعد الله تَعَالَى فِي الْجنَّة لأَهْلهَا من نعم الْأكل وَالشرب وَالنِّكَاح والمناظر المبهجة وَمَا أعد فِي النَّار لأَهْلهَا من السلَاسِل والأغلال وَالْحَمِيم ومقطعات الثِّيَاب من النَّار وَنَحْو ذَلِك وَالْمَقْصُود بَيَان أَن الْحَاجة إِلَيّ الرُّسُل صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم ضَرُورِيَّة بل هِيَ فِي أَعلَى مَرَاتِب الضَّرُورَة وَلَيْسَت نظرا لحاجتهم إِلَيّ الْحَاجة وأسبابها بل هِيَ أعظم من ذَلِك وَأما مَا ذكر عَن الصابئة من الِاسْتِغْنَاء عَن النُّبُوَّة فَهَذَا لَيْسَ مذهبا لجميعهم بل فيهم سعيد وشقي كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِن الَّذين}
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute