للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتوكلهم على الله لهوا وَلَعِبًا

فَقَالَ آخر وَهَذَا يَتَّضِح بمثال وَليكن الْمِثَال أَن ملكا فِي زَمَانك وبلادك وَاسع الْملك عَظِيم الشَّأْن بعيد الصيت سابغ الهيبة مَعْرُوفا بالحكمة مَشْهُورا بالحزم يضع الْخَيْر فِي موَاضعه ويوقع الشَّرّ فِي مواقعه عِنْده جَزَاء كل سَيِّئَة وثواب كل حَسَنَة قد رتب لبريده أصلح الْأَوْلِيَاء لَهُ وَكَذَلِكَ نصب لجباية أَمْوَاله أقوم النَّاس بهَا وَكَذَلِكَ ولى عمَارَة أرضه أنهض النَّاس بهَا وَشرف آخر بكتابته وَآخر بوزارته وَآخر بنيابته فَإِذا نظرت إِلَى ملكه وجدته مؤزرا بسداد الرَّأْي ومحمود التَّدْبِير وأولياؤه حواليه وحاشيته بَين يَدَيْهِ وكل يحف إِلَى مَا هُوَ مَنُوط بِهِ ويستقصي طاقته ويبذل فِيهِ وَالْملك يَأْمر وَينْهى ويصدر ويورد ويثيب ويعاقب وَقد علم صَغِير أوليائه وَكَبِيرهمْ ووضيع رعاياه وشريفهم وَنبيه النَّاس وخاملهم أَن الْأَمر الَّذِي تعلق بِكَذَا وَكَذَا صدر من الْملك إِلَى كَاتبه لِأَنَّهُ من جنس الْكِتَابَة وعلائقها وَمَا يدْخل فِي شرائطها ووثائقها وَالْأَمر الآخر صدر إِلَى صَاحب بريده لِأَنَّهُ من أَحْكَام الْبَرِيد وفنونه وَالْأَمر الآخر ألْقى إِلَى صَاحب المعونة لِأَنَّهُ من جنس مَا هُوَ مُرَتّب لَهُ مَنْصُوب من أَجله والْحَدِيث الآخر صدر إِلَى القَاضِي لِأَنَّهُ من بَاب الدّين وَالْحكم والفصل وكل هَذَا مُسلم إِلَى الْملك لَا يفتات عَلَيْهِ فِي شَيْء مِنْهُ وَلَا يستبد بِشَيْء دونه فالأحوال على هَذَا كلهَا جَارِيَة على أُصُولهَا وقواعدها فِي مجاريها لَا يرد شَيْء مِنْهَا إِلَى غير شكله وَلَا يرتقي إِلَى غير طبقته فَلَو وقف رجل لَهُ من الحزم نصيب وَمن الْيَقَظَة قسط على هَذَا الْملك الجسيم وتصفح أبوابه بَابا بَابا وَحَالا حَالا وتخلل بَيْتا بَيْتا وَرفع سجفا سجفا لَا يُمكنهُ أَن يعلم بِمَا يثمره لَهُ هَذَا النّظر وميزه لَهُ هَذَا الْقيَاس وأوقعه عَلَيْهِ هَذَا الحدس مَا سيفعله هَذَا الْملك غَدا وَمَا يتَقَدَّم بِهِ إِلَى شهر وَمَا يكَاد يكون مِنْهُ إِلَى سنة وسنتين لِأَنَّهُ يعاني الْأَحْوَال ويقايس بَينهَا ويلتقط أَلْفَاظ الْملك ولحظاته وإشاراته وحركاته وَيَقُول فِي بَعْضهَا رَأَيْت الْملك يفعل كَذَا وَكَذَا وبفعل كَذَا وَكَذَا وَهَذَا يدل على كَذَا وَكَذَا وَإِنَّمَا جرأه هَذِه الجرأة على هَذَا الحكم والبت أَنه قد ملك لحظ الْملك وَلَفظه وحركته وسكونه وتعريضه وتصريحه وجده وهزله وشكله وسجيته وتجعده واسترساله ووجومه ونشاطه وانقباضه وانبساطه وغضبه وَرضَاهُ ثمَّ هجس فِي نفس هَذَا الْملك هاجس وخطر بِبَالِهِ خاطر فَقَالَ أُرِيد أَن أعمل عملا وأوثر أثرا وأحدث حَالا لَا يقف عَلَيْهَا أوليائي وَلَا المطيعون لي وَلَا المختصون بِقَوْلِي وَلَا المتعلقون بحبالي وَلَا أحد من أعدائي المتتبعين لأمري والمحصين لأنفاسي وَلَا أدرى كَيفَ افتتحه وَلَا اقترحه لِأَنِّي مَتى تقدّمت فِي ذَلِك إِلَى كل من يلوذ بِي وَيَطوف بناحيتي كَانَ الْأَمر فِي ذَلِك نَظِير جَمِيع أموري وَهَذَا هُوَ الْفساد الَّذِي يلْزَمنِي تجنبه وَيجب على التيقظ فِيهِ فيقدح لَهُ الْفِكر الثاقب انه يَنْبَغِي أَن يتأهب للصَّيْد ذَات يَوْم فيتقدم بذلك ويذيعه فَيَأْخُذ أَصْحَابه

<<  <  ج: ص:  >  >>