للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إذْ لَيْسَ فِي الْأُصُولِ اخْتِلَافُ حُكْمِ جَوَانِبه فِي الْمَشْيِ وَلَا الرَّمَلِ فِي سَائِرِ أَحْكَامِ الطَّوَافِ.

وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي بَقَاءِ سُنَّةِ الرَّمَلِ، فَقَالَ قَائِلُونَ: إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ سُنَّةً حِينَ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَائِيًا ١ بِهِ لِلْمُشْرِكِينَ إظْهَارًا لِلتَّجَلُّدِ وَالْقُوَّةِ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ; لِأَنَّهُمْ قَالُوا: قَدْ أَوْهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ; فَأَمَرَهُمْ بِإِظْهَارِ الْجَلَدِ لِئَلَّا يَطْمَعَ فِيهِمْ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: فِيمَ الرَّمَلَانُ الْآنَ وَالْكَشْفُ عَنْ الْمَنَاكِبِ وَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَنَفَى الْكُفْرَ وَأَهْلَهُ؟ وَمَعَ ذَلِكَ لَا نَدَعُ شَيْئًا كُنَّا نَفْعَلُهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ: قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ: إنَّ قَوْمَك يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ بِالْبَيْتِ وَأَنَّهُ سُنَّةٌ، قَالَ: صَدَقُوا وَكَذَبُوا، قَدْ رَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ لَا يَنْبَغِي تَرْكُهَا، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ بِهِ بَدِيًّا لِإِظْهَارِ الْجَلَدِ وَالْقُوَّةِ مُرَاءَاةً لِلْمُشْرِكِينَ; لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُشْرِكُونَ; وَقَدْ فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمْ; فَثَبَتَ بَقَاءُ حُكْمِهِ وَلَيْسَ تَعَلُّقُهُ بَدِيًّا بِالسَّبَبِ الْمَذْكُورِ مِمَّا يُوجِبُ زَوَالَ حُكْمِهِ حَيْثُ زَالَ السَّبَبُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ سَبَبَ رَمْيِ الْجِمَارِ أَنَّ إبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ عَرَضَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَوْضِعِ الْجِمَارِ فَرَمَاهُ، ثُمَّ صَارَ الرَّمْيُ سُنَّةً بَاقِيَةً مَعَ عَدَمِ ذَلِكَ السَّبَبِ؟ وَرُوِيَ أَنَّ سَبَبَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَة أَنَّ أُمَّ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَعِدَتْ الصَّفَا تَطْلُبُ الْمَاءَ ثُمَّ نَزَلَتْ فَأَسْرَعَتْ الْمَشْيَ فِي بَطْنِ الْوَادِي لِغَيْبَةِ الصَّبِيِّ عَنْ عَيْنِهَا، ثُمَّ لَمَّا صَعِدَتْ مِنْ الْوَادِي رَأَتْ الصَّبِيَّ فَمَشَتْ عَلَى هِينَتِهَا وَصَعِدَتْ الْمَرْوَةَ تَطْلُبُ الْمَاءَ، فَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَصَارَ السَّعْيُ بَيْنَهُمَا سُنَّةً، وَإِسْرَاعُ الْمَشْيِ فِي الْوَادِي سُنَّةٌ مَعَ زَوَالِ السَّبَبِ الَّذِي فُعِلَ مِنْ أَجْلِهِ، فَكَذَلِكَ الرَّمَلُ فِي الطَّوَافِ.

وَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ وَالْيَمَانِيَ دُونَ غَيْرِهِمَا. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ حِينَ أُخْبِرَ بِقَوْلِ عَائِشَةَ إنَّ الْحَجَرَ بَعْضُهُ مِنْ الْبَيْتِ: إنِّي لَأَظُنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتْرُكْ اسْتِلَامَهُمَا إلَّا أَنَّهُمَا لَيْسَا عَلَى قَوَاعِدِ الْبَيْتِ وَلَا طَافَ النَّاسُ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ إلَّا لِذَلِكَ. وَقَالَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ: طُفْت مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَلَمَّا كُنْت عِنْدَ الرُّكْنِ الَّذِي يَلِي الْحَجَرَ أَخَذْت أَسْتَلِمُهُ فَقَالَ: مَا طُفْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْت: بَلَى قَالَ فَرَأَيْته يَسْتَلِمُهُ؟ قُلْت: لَا قَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: ٢١] .


١ قوله "مرائيا به" هو من الرؤية، قال في النهاية: جاء في حديث: "رمل الطواف إنما كنا رأينا به المشركين" هو فاعلنا من الرؤية، أي بذلك إنا أقوياء. انتهى.

<<  <  ج: ص:  >  >>