للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} الْآيَةَ; يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَعْنَى "مَأْمُونٍ فِيهِ" كقوله تعالى: {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة: ٢١] يَعْنِي مَرْضِيَّةً. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَهْلَ الْبَلَدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: ٨٢] مَعْنَاهُ: أَهْلَهَا; وَهُوَ مَجَازٌ; لِأَنَّ الْأَمْنَ وَالْخَوْفَ لَا يَلْحَقَانِ الْبَلَدَ وَإِنَّمَا يَلْحَقَانِ مَنْ فِيهِ.

وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْأَمْنِ الْمَسْئُولِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ قَائِلُونَ: سَأَلَ الْأَمْنَ مِنْ الْقَحْطِ وَالْجَدْبِ; لِأَنَّهُ أَسْكَنَ أَهْلَهُ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ وَلَا ضَرْعٍ، وَلَمْ يَسْأَلْهُ الْأَمْنَ مِنْ الْخَسْفِ وَالْقَذْفِ; لِأَنَّهُ كَانَ آمِنًا مِنْ ذَلِكَ قَبْلُ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ سَأَلَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} . وقوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: ٦٧] . وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} وَالْمُرَادُ وَاَللَّه أَعْلَمُ بِذَلِكَ الْأَمْنُ مِنْ الْقَتْلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ سَأَلَهُ مَعَ رِزْقِهِمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} وَقَالَ عَقِيبَ مَسْأَلَةِ الْأَمْنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: ٣٥] ، ثُمَّ قَالَ فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [إبراهيم: ٣٧] فَذَكَرَ مَعَ مَسْأَلَتِهِ الْأَمْنَ وَأَنْ يَرْزُقَهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ، فَالْأَوْلَى حَمْلُ مَعْنَى مَسْأَلَةِ الْأَمْنِ عَلَى فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ غَيْرِ مَا ذَكَرَهُ فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ وَنَصَّ عَلَيْهِ مِنْ الرِّزْقِ.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَمْنِهَا مِنْ الْقَتْلِ قَدْ كَانَ مُتَقَدِّمًا لِعَهْدِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ" يَعْنِي الْقِتَالَ فِيهَا; فَسَأَلَهُ إدَامَةَ هَذَا الْحُكْمِ فِيهَا وَتَبْقِيَتَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ بَعْدَهُ.

وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّهَا لَمْ تَكُنْ حَرَمًا وَلَا أَمْنًا قَبْلَ مَسْأَلَةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي حَرَّمْت الْمَدِينَةَ". وَالْأَخْبَارُ الْمَرْوِيَّةُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، أَقْوَى وَأَصَحُّ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ حَرَامًا قَبْلَ ذَلِكَ; لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَرَّمَهَا بِتَحْرِيمِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَاتَّبَعَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا. وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَفْيِ تَحْرِيمِهَا قَبْلَ عَهْدِ إبْرَاهِيمَ مِنْ غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي صَارَتْ بِهِ حَرَامًا بَعْدَ الدَّعْوَةِ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ يَمْنَعُ

<<  <  ج: ص:  >  >>