مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ أَوْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ; وَغَيْرُ جَائِزٍ إضْمَارُ الْوَطْءِ فِيهِ; إذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ فَثَبَتَ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ تَزْوِيجِ الْأَمَةِ أَوْ الْحُرَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: ٣] إبَاحَةٌ مَعْقُودَةٌ بِشَرْطٍ, وَهِيَ أَنْ تَكُونَ مِمَّا طَابَ لَنَا, فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِمَّا طَابَ حَتَّى يَجُوزَ الْعَقْدُ; وَهُوَ إذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُجْمَلِ الْمُفْتَقِرِ إلَى الْبَيَانِ. قِيلَ لَهُ: قَوْله تَعَالَى: {مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: ٣] يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَا اسْتَطَبْتُمُوهُ, فَيَكُونُ مُفِيدًا لِلتَّخْيِيرِ, كَقَوْلِ الْقَائِلِ: "اجْلِسْ مَا طَابَ لَك فِي هَذِهِ الدَّارِ وَكُلْ مَا طَابَ لَك مِنْ هَذَا الطَّعَامِ" فَيُفِيدُ تَخْيِيرَهُ فِي فِعْلِ مَا شَاءَ مِنْهُ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: مَا حَلَّ لَكُمْ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ فَقَدْ اقْتَضَى تَخْيِيرَهُ فِي نِكَاحِ مَنْ شَاءَ وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ, وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ مَا حَلَّ لَكُمْ, فَإِنَّهُ قَدْ عَقِبَهُ بَيَانُ مَا طَابَ لَكُمْ مِنْهَا, وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: ٣] , فَقَدْ خَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ حَيِّزِ الْإِجْمَالِ إلَى حَيِّزِ الْعُمُومِ, وَاسْتِعْمَالُ الْعُمُومِ وَاجِبٌ كَيْفَ تَصَرَّفَتْ الْحَالُ. وَعَلَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُحْتَمِلَةً لِلْعُمُومِ وَالْإِجْمَالِ جَمِيعًا لَكَانَ حَمْلُهَا عَلَى مَعْنَى الْعُمُومِ أَوْلَى لِإِمْكَانِ اسْتِعْمَالِهِ, وَمَتَى أَمْكَنَنَا اسْتِعْمَالُ حُكْمِ اللَّفْظِ عَلَى وَجْهٍ فَعَلَيْنَا اسْتِعْمَالُهُ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: ٥] , وَالْإِحْصَانُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَعَلَى الْعَقْدِ, يَدُلُّ عَلَيْهِ قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: "فَإِذَا أَسْلَمْنَ" وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "فَإِذَا تَزَوَّجْنَ". وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّزْوِيجَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ, فَثَبَتَ أَنَّهُ أَرَادَ الْعَفَافَ, وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: ٥] هُوَ عُمُومٌ أَيْضًا فِي تَزَوُّجِ الْإِمَاءِ الْكِتَابِيَّاتِ, وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: ٣٢] , وَذَلِكَ عُمُومٌ يُوجِبُ جَوَازَ نِكَاحِ الْإِمَاءِ كَمَا اقْتَضَى جَوَازَ نِكَاحِ الْحَرَائِرِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة: ٢٢١] , وَمُحَالٌ أَنْ يُخَاطَبَ بِذَلِكَ إلَّا مَنْ قَدَرَ عَلَى نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ الْحُرَّةِ, وَمَنْ وَجَدَ طَوْلًا إلَى الْحُرَّةِ الْمُشْرِكَةِ فَهُوَ يَجِدُ طَوْلًا إلَى الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ, فَاقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَ نِكَاحِ الْأَمَةِ مَعَ وُجُودِ الطَّوْلِ إلَى الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ كَمَا اقْتَضَاهُ مَعَ وُجُودِهِ إلَى الْحُرَّةِ الْمُشْرِكَةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى نِكَاحِ امْرَأَةٍ لَا تُحَرِّمُ نِكَاحَ أُخْرَى,
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute