لِقُرْبِهِ مِنْ الذَّبْحِ وَإِنْ لَمْ يُذْبَحْ; وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: ٢] وَالْمَعْنَى فِيهِ مُقَارَبَةُ الْبُلُوغِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: ٢٣٢] وَأَرَادَ بِهِ حَقِيقَةَ الْبُلُوغِ. فَجَائِزٌ عَلَى هَذَا أَنْ يُسَمَّى الْمُتَسَاوِمَانِ مُتَبَايِعَيْنِ إذَا قَصَدَا إيقَاعَ الْعَقْدِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا, وَاَلَّذِي لَا يَخْتَلُّ عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُمَا بَعْدَ وُقُوعِ الْبَيْعِ مِنْهُمَا لَا يُسَمَّيَانِ مُتَبَايِعَيْنِ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ إذَا انْقَضَتْ زَالَ عَنْ فَاعِلِيهَا الْأَسْمَاءُ الْمُشْتَقَّةُ لَهَا مِنْ أَفْعَالِهِمْ, إلَّا فِي أَسْمَاءِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي صَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ; وَإِنَّمَا يُقَالُ كَانَا مُتَبَايِعَيْنِ وَكَانَا مُتَقَايِلَيْنِ وَكَانَا مُتَضَارِبَيْنِ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الِاسْمَ لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ لَهُمَا بَعْدَ إيقَاعِ الْعَقْدِ أَنَّهُ قَدْ يَصِحُّ مِنْهُمَا الْإِقَالَةُ وَالْفَسْخُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ مُتَقَايِلَانِ فِي حَالِ فِعْلِ الْإِقَالَةِ, وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَا مُتَقَايِلَيْنِ مُتَفَاسِخَيْنِ وَمُتَبَايِعَيْنِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْمُتَبَايِعَيْنِ عَلَيْهِمَا إنَّمَا يَتَنَاوَلُ حَالَ السَّوْمِ وَإِيقَاعَ الْعَقْدِ حَقِيقَةً, وَأَنَّ هَذَا الِاسْمَ إنَّمَا يَلْحَقُهُمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعَقْدِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمَا كَانَا مُتَبَايِعَيْنِ وَذَلِكَ مَجَازٌ, وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَهِيَ حَالُ التَّبَايُعِ, وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: "قَدْ بِعْتُك" فَأَطْلَقَ اسْمَ الْبَيْعِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ, فَهَذِهِ هِيَ الْحَالُ الَّتِي هُمَا مُتَبَايِعَانِ فِيهَا وَهِيَ حَالُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. فَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي الْقَبُولِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ. وَيَدُلُّك عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هَذِهِ الْحَالُ قَوْلُهُ: "الْمُتَبَايِعَانِ" وَإِنَّمَا الْبَائِعُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ صَاحِبُ السِّلْعَةِ, فَكَأَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ الْبَائِعُ قَدْ بِعْت فَهُمَا بِالْخِيَارِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَيْسَ بِبَائِعٍ, فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ: إذَا بَاعَ الْبَائِعُ قَبْلَ قَبُولِ الْمُشْتَرِي.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْوِيلِ قوله صلى الله عليه وسلم: "المتبايعان بالخيار مَا لَمْ يَفْتَرِقَا" فَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْن الْحَسَنِ أَنَّ مَعْنَاهُ: إذَا قَالَ الْبَائِعُ قَدْ بِعْتُك فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ يَقُلْ الْمُشْتَرِي قَبِلْت, قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: "هُمَا الْمُتَسَاوِيَانِ, فَإِذَا قَالَ بِعْتُك بِعَشْرَةٍ فَلِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْقَبُولِ فِي الْمَجْلِسِ وَلِلْبَائِعِ خِيَارُ الرُّجُوعِ فِيهِ قَبْلَ قَبُولِ الْمُشْتَرِي, وَمَتَى قَامَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ قَبُولِ الْبَيْعِ بَطَلَ الْخِيَارُ الَّذِي كَانَ لَهُمَا وَلَمْ تَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا إجَازَتُهُ". فَحَمَلَهُ مُحَمَّدُ عَلَى الِافْتِرَاقِ بِالْقَوْلِ وَذَلِكَ سَائِغٌ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:٤] , وَيُقَالُ: تَشَاوَرَ الْقَوْمُ فِي كَذَا فَافْتَرَقُوا عَنْ كَذَا, يُرَادُ بِهِ الِاجْتِمَاعُ عَلَى قَوْلٍ وَالرِّضَى بِهِ وَإِنْ كَانُوا مُجْتَمَعِينَ فِي الْمَجْلِسِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الِافْتِرَاقُ بِالْقَوْلِ, مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute