للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَكَمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ الْقُعُودُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ كَانَ حُكْمُ الِاجْتِيَازِ فِيهِ حُكْمَ الْقُعُودِ فَكَانَ الِاجْتِيَازُ بِمَنْزِلَةِ الْقُعُودِ, كَذَلِكَ الْقُعُودُ فِي الْمَسْجِدِ لَمَّا كَانَ مَحْظُورًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ الِاجْتِيَازُ اعْتِبَارًا بِمَا ذَكَرْنَا; وَالْعِلَّةُ فِي الْجَمِيعِ حَظْرُ الْكَوْنِ فِيهِ.

وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} وَتَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى إبَاحَةِ الِاجْتِيَازِ فِي الْمَسْجِدِ, فَإِنَّ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَأْوِيلِهِ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُسَافِرُ الَّذِي لَا يَجِدُ الْمَاءَ فَيَتَيَمَّمُ, أَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الِاجْتِيَازِ فِي الْمَسْجِدِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} نَهْيٌ عَنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ نَفْسِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا عِنْدَ الْمَسْجِدِ; لِأَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ وَمَفْهُومُ الْخِطَابِ, وَحَمْلُهُ عَلَى الْمَسْجِدِ عُدُولٌ بِالْكَلَامِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إلَى الْمَجَازِ بِأَنْ تَجْعَلَ الصَّلَاةَ عِبَارَةً عَنْ مَوْضِعِهَا, كَمَا يُسَمَّى الشَّيْءُ بِاسْمِ غَيْرِهِ لِلْمُجَاوَرَةِ أَوْ لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ مِنْهُ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج: ٤٠] يَعْنِي بِهِ مَوَاضِعَ الصَّلَوَاتِ. وَمَتَى أَمْكَنَنَا اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَمْ يَجُزْ صَرْفُهُ عَنْهَا إلَى الْمَجَازِ إلَّا بِدَلَالَةٍ, وَلَا دَلَالَةَ تُوجِبُ صَرْفَ ذَلِكَ عَنْ الْحَقِيقَةِ وَفِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ حَقِيقَةً الصَّلَاةُ, وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} وَلَيْسَ لِلْمَسْجِدِ قَوْلٌ مَشْرُوطٌ يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِهِ لِتَعَذُّرِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ السُّكْرِ, وَفِي الصَّلَاةِ قِرَاءَةٌ مَشْرُوطَةٌ, فَمَنَعَ مِنْ أَجْلِ الْعُذْرِ عَنْ إقَامَتِهَا عَنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ حَقِيقَةُ الصَّلَاةِ, فَيَكُونُ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَيْهَا مُوَافِقًا لِظَاهِرِهَا وَحَقِيقَتِهَا.

وقَوْله تَعَالَى: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْمُسَافِرَ; لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يُسَمَّى عَابِرَ سَبِيلٍ, وَلَوْلَا أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ هَذَا الِاسْمُ; لَمَا تَأَوَّلَهُ عَلَيْهِ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ تَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى مَا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمُسَافِرُ عَابِرَ سَبِيلٍ; لِأَنَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ, كَمَا يُسَمَّى ابْنَ السَّبِيلِ; فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ فِي حَالِ السَّفَرِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيُصَلِّيَ وَإِنْ كَانَ جُنُبًا, فَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: جَازَ التَّيَمُّمُ لِلْجُنُبِ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ وَالصَّلَاةُ بِهِ, وَالثَّانِي: أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْجَنَابَةَ; لِأَنَّهُ سَمَّاهُ جُنُبًا مَعَ كَوْنِهِ مُتَيَمِّمًا; فَهَذَا التَّأْوِيلُ أَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الِاجْتِيَازِ فِي الْمَسْجِدِ.

وقَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} غَايَةٌ لِإِبَاحَةِ الصَّلَاةِ, وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْغَايَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ دَاخِلَةٌ فِي الْحَظْرِ إلَى أَنْ يَسْتَوْعِبَهَا بِوُجُودِ الِاغْتِسَالِ, وَأَنَّهُ لَا تَجُوزُ لَهُ الصَّلَاةُ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ غُسْلِهِ شَيْءٌ فِي حَالِ وُجُودِ الْمَاءِ وَإِمْكَانِ اسْتِعْمَالِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَخَافُهُ; فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْغَايَةَ قَدْ تَدْخُلُ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا; وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: ١٨٧] وَالْغَايَةُ خَارِجَةٌ مِنْ الْجُمْلَةِ; لِأَنَّهُ بِدُخُولِ أَوَّلِ اللَّيْلِ يَخْرُجُ مِنْ الصَّوْمِ; لِأَنَّ" إلَى" غَايَةٌ كَمَا أَنَّ" حَتَّى" غَايَةٌ. وَهَذَا أَصْلٌ فِي أَنَّ الْغَايَةَ قَدْ يَجُوزُ دُخُولُهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>