للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنْكُثَهُ وَأَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ". وَقَدْ كَانَ حِلْفُ الْمُطَيِّبِينَ بَيْنَ قُرَيْشٍ عَلَى أَنْ يَدْفَعُوا عَنْ الْحَرَمِ مَنْ أَرَادَ انْتِهَاكَ حُرْمَتِهِ بِالْقِتَالِ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إلَّا شِدَّةً" فَهُوَ نَحْوُ حِلْفِ الْمُطَيِّبِينَ وَحِلْفِ الْفُضُولِ, وَكُلِّ مَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ مِنْ الْمُعَاقَدَةِ دُونَ مَا كَانَ مِنْهُ مَعْصِيَةً لَا تُجَوِّزُهُ الشَّرِيعَةُ.

وَالْعَقْدُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الشَّدُّ, تَقُولُ: عَقَدَتْ الْحَبْلَ, إذَا شَدَدْته. وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ تُسَمَّى عَقْدًا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: ٨٩] وَالْحِلْفُ يُسَمَّى عَقْدًا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: ٣٣] . وَقَالَ أَبُو عبيدة في قوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} قَالَ: "هِيَ الْعُهُودُ وَالْأَيْمَانُ". وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ في قوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} قَالَ: "هِيَ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَالْحِلْفِ وَالْعَهْدِ" وَزَادَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ مِنْ قَبْلِهِ: "وَعَقْدُ الشَّرِكَةِ وَعَقْدُ الْيَمِينِ". وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدَةَ قَالَ: "الْعُقُودُ سِتَّةٌ عَقْدُ الْإِيمَانِ, وَعَقْدُ النِّكَاحِ, وَعُقْدَةُ الْعَهْدِ, وَعُقْدَةُ الشِّرَى وَالْبَيْعِ, وَعُقْدَةُ الْحِلْفِ".

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْعَقْدُ مَا يَعْقِدُهُ الْعَاقِدُ عَلَى أَمْرٍ يَفْعَلُهُ هُوَ أَوْ يَعْقِدُ عَلَى غَيْرِهِ فِعْلَهُ عَلَى وَجْهِ إلْزَامِهِ إيَّاهُ; لِأَنَّ الْعَقْدَ إذَا كَانَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الشَّدُّ ثُمَّ نُقِلَ إلَى الْأَيْمَانِ, وَالْعُقُودُ عُقُودُ الْمُبَايَعَاتِ وَنَحْوِهَا, فَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ إلْزَامُ الْوَفَاءِ بِمَا ذَكَرَهُ فِي إيجَابِهِ عَلَيْهِ, وَهَذَا إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مِنْهُ مَا كَانَ مُنْتَظَرًا مُرَاعًى فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ الْأَوْقَاتِ, فَيُسَمَّى الْبَيْعُ وَالنِّكَاحُ وَالْإِجَارَةُ وَسَائِرُ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ عُقُودًا; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ التَّمَامَ عَلَيْهِ, وَالْوَفَاءَ بِهِ, وَسُمِّيَ الْيَمِينُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ عَقْدًا; لِأَنَّ الْحَالِفَ قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْوَفَاءَ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ وَالشَّرِكَةُ وَالْمُضَارَبَةُ وَنَحْوُهَا تُسَمَّى أَيْضًا عُقُودًا لِمَا وَصَفْنَا مِنْ اقْتِضَائِهِ الْوَفَاءَ بِمَا شَرَطَهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الرِّبْحِ وَالْعَمَلِ لِصَاحِبِهِ وَأَلْزَمَهُ نَفْسَهُ, وَكَذَلِكَ الْعَهْدُ وَالْأَمَانُ; لِأَنَّ مُعْطِيَهَا قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْوَفَاءَ بِهَا, وَكَذَلِكَ كُلُّ شَرْطٍ شَرَطَهُ إنْسَانٌ عَلَى نَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَهُوَ عَقْدٌ, وَكَذَلِكَ النُّذُورُ, وَإِيجَابُ الْقُرَبِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ. وَمَا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَعْنًى فِي الْمُسْتَقْبَلِ يُنْتَظَرُ وُقُوعُهُ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى شَيْءٍ مَاضٍ قَدْ وَقَعَ فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى عَقْدًا أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى طَلَاقُهُ عَقْدًا؟ وَلَوْ قَالَ لَهَا: "إذَا دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ" كَانَ ذَلِكَ عَقْدًا لِيَمِينٍ؟ وَلَوْ قَالَ: "وَاَللَّهِ لَقَدْ دَخَلْت الدَّارَ أَمْسِ" لَمْ يَكُنْ عَاقِدًا لِشَيْءٍ؟ وَلَوْ قَالَ: "لَأَدْخُلَنَّهَا غَدًا" كَانَ عَاقِدًا؟ وَيَدُلُّك عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إيجَابُهُ فِي الْمَاضِي وَيَصِحُّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَوْ قَالَ: "عَلَيَّ أَنْ أَدْخُلَ الدَّارَ أَمْسِ" كَانَ لَغْوًا مِنْ الْكَلَامِ مُسْتَحِيلًا, وَلَوْ قَالَ: "عَلَيَّ أَنْ أَدْخُلَهَا غَدًا" كَانَ إيجَابًا مَفْعُولًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>