للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَسَبْت لَهُمْ, وَفُلَانٌ جَرِيمَةُ أَهْلِهِ أَيْ كَاسِبُهُمْ; قَالَ الشَّاعِرُ:

جَرِيمَةُ نَاهِضٍ فِي رَأْسِ نِيقٍ ... تَرَى لِعِظَامِ مَا جَمَعَتْ صَلِيبَا١

وَيُقَالُ: جَرَمَ يَجْرُمُ جُرْمًا, إذَا قَطَعَ.

وقَوْله تَعَالَى: {شَنَآنُ قَوْمٍ} قُرِئَ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِهَا, فَمَنْ فَتَحَ النُّونَ جَعَلَهُ مَصْدَرًا مِنْ قَوْلِك: "شَنِئْته أَشَنْأَهُ شَنَآنًا" وَالشَّنَآنُ الْبُغْضُ فَكَأَنَّهُ قَالَ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ; وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ قَالَا عَدَاوَةُ قَوْمٍ". وَمَنْ قَرَأَ بِسُكُونِ النُّونِ فَمَعْنَاهُ بَغِيضُ قَوْمٍ٢, فَنَهَاهُمْ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَتَجَاوَزُوا الْحَقَّ إلَى الظُّلْمِ وَالتَّعَدِّي, لِأَجْلِ تَعَدِّي الْكُفَّارِ بِصَدِّهِمْ الْمُسْلِمِينَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ; وَمِثْلُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك".

وقَوْله تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ إيجَابَ التَّعَاوُنِ عَلَى كُلِّ مَا كَانَ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى; لِأَنَّ الْبِرَّ هُوَ طَاعَاتُ اللَّهِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} نَهْيٌ عَنْ مُعَاوَنَةِ غَيْرِنَا عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} الْآيَةُ. الْمَيْتَةُ مَا فَارَقْته الرُّوحُ بِغَيْرِ تَذْكِيَةٍ مِمَّا شُرِطَ عَلَيْنَا الذَّكَاةُ فِي إبَاحَتِهِ. وَأَمَّا الدَّمُ فَالْمُحَرَّمُ مِنْهُ هُوَ الْمَسْفُوحُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: ١٤٥] وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَالدَّلِيلُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنْهُ هُوَ الْمَسْفُوحُ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى إبَاحَةِ الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ وَهُمَا دَمَانِ, وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُحِلَّتْ لِي مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ" يَعْنِي بِالدَّمَيْنِ الْكَبِدَ وَالطِّحَالَ; فَأَبَاحَهُمَا وَهُمَا دَمَانِ; إذْ لَيْسَا بِمَسْفُوحٍ, فَدَلَّ عَلَى إبَاحَةِ كُلِّ مَا لَيْسَ بِمَسْفُوحٍ مِنْ الدِّمَاءِ.

فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا حَصَرَ الْمُبَاحُ مِنْهُ بِعَدَدٍ دَلَّ عَلَى حَظْرِ مَا عَدَاهُ. قِيلَ: هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّ الْحَصْرَ بِالْعَدَدِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ حَرَّمَهُ بِخِلَافِهِ, وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا خِلَافَ أَنَّ مِمَّا عَدَاهُ مِنْ الدِّمَاءِ مَا هُوَ الْمُبَاحُ وَهُوَ الدَّمُ الَّذِي يَبْقَى فِي خَلَلِ اللَّحْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ وَمَا يَبْقَى مِنْهُ فِي الْعُرُوقِ, فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حَصْرَهُ الدَّمَيْنِ بِالْعَدَدِ وَتَخْصِيصَهُمَا بِالذِّكْرِ لَمْ يَقْتَضِ حَظْرَ جَمِيعِ مَا عَدَاهُمَا مِنْ الدِّمَاءِ. وَأَيْضًا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: ١٤٥] ثُمَّ قال:


١ قوله: "جريمة إلى آخره" البيت لأبي خراش الهذلي يصف عقابا لفرخها الناهض وتزقه ما تأكل من لحم طير أكلته وتبقي العظام يسيل منها الصليب وهو الودك كما في التهذيب للأزهري "لمصححه".
٢ قوله: "بغيض قوم" فعلى هذا تكون الإضافة بيانية كما في حواشي البياضي "لمصححه".

<<  <  ج: ص:  >  >>