وَإِنَّمَا كَانَ عِلْمُهُ عِنْدَ قَوْمٍ مِنْ الْخَاصَّةِ يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ, فَإِنَّهُ جَائِزٌ وُقُوعُ تَغْيِيرِ أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ إلَى غَيْرِهَا وَإِثْبَاتُ أَلْفَاظٍ أُخَرَ سِوَاهَا. وَأَمَّا الْمُسْتَفِيضُ الشَّائِعُ فِي أَيْدِي الْكَافَّةِ فَإِنَّمَا تَحْرِيفُهُمْ عَلَى تَأْوِيلَاتٍ فَاسِدَةٍ, كَمَا تَأَوَّلَتْ الْمُشَبِّهَةُ وَالْمُجَبِّرَةُ كَثِيرًا مِنْ الْآيِ الْمُتَشَابِهَةِ عَلَى مَا تَعْتَقِدُهُ مِنْ مَذْهَبِهَا وَتَدَّعِي مِنْ مَعَانِيهَا مَا يُوَافِقُ اعْتِقَادَهَا دُونَ حَمْلِهَا عَلَى مَعَانِي الْآيِ الْمُحْكَمَةِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وُقُوعُ التَّحْرِيفِ مِنْ جِهَةِ تَغْيِيرِ الْأَلْفَاظِ فِيمَا اسْتَفَاضَ وَانْتَشَرَ عِنْدَ الْكَافَّةِ, مِنْ قِبَلِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ إلَّا بِالتَّوَاطُؤِ عَلَيْهِ, وَمِثْلُهُ مَعَ اخْتِلَافِ هِمَمِهِمْ وَتَبَاعُدِ أَوْطَانِهِمْ لَا يَجُوزُ وُقُوعُ التَّوَاطُؤِ مِنْهُمْ عَلَى مِثْلِهِ, كَمَا لَا يَجُوزُ وُقُوعُ التَّوَاطُؤِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَغْيِيرِ شَيْءٍ مِنْ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ إلَى غَيْرِهِ; وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى اخْتِرَاعِ أَخْبَارٍ لَا أَصْلَ لَهَا, وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَمَا صَحَّ أَنْ يُعْلَمَ بِالْأَخْبَارِ شَيْءٌ; وَقَدْ عُلِمَ بُطْلَانُ هَذَا الْقَوْلِ اضْطِرَارًا.
قَوْله تَعَالَى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: إنَّمَا قَالَ: {قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} وَلَمْ يَقُلْ: "مِنْ النَّصَارَى" لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُمْ ابْتَدَعُوا النَّصْرَانِيَّةَ وَتَسَمَّوْا بِهَا, وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى مِنْهَاجِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْمَسِيحَ فِي زَمَانِهِ مِنْ الْحَوَارِيِّينَ وَهُمْ الَّذِينَ كَانُوا نَصَارَى فِي الْحَقِيقَةِ نُسِبُوا إلَى قَرْيَةٍ بِالشَّامِ تُسَمَّى" نَاصِرَةَ" فَانْتَسَبَ هَؤُلَاءِ إلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْهُمْ; لِأَنَّ أُولَئِكَ كَانُوا مُوَحِّدَةً مُؤْمِنِينَ, وَهَؤُلَاءِ مُثَلِّثَةٌ مُشْرِكُونَ. وَقَدْ أَطْلَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ غَيْرِهِ اسْمَ النَّصَارَى, لَا عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ عَنْهُمْ, فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: ٣٠] وَفِي مَوَاضِعَ أُخَرَ; لِأَنَّهُمْ قَدْ عُرِفُوا بِذَلِكَ وَصَارَ ذَلِكَ سِمَةٌ لَهُمْ وَعَلَامَةٌ.
قَوْله تَعَالَى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} إنَّمَا لَحِقَتْهُمْ سِمَةُ الْكُفْرِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ التَّدَيُّنِ بِهِ وَاعْتِقَادِهِمْ إيَّاهُ وَالْإِقْرَارِ بِصِحَّتِهِ; لِأَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا عَلَى جِهَةِ الْحِكَايَةِ عَنْ غَيْرِهِمْ مُنْكِرِينَ لَهُ لَمَا كَفَرُوا; وَالْكُفْرُ هُوَ التَّغْطِيَةُ, وَيَرْجِعُ مَعْنَى مَا ذُكِرَ عَنْهُمْ إلَى التَّغْطِيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كُفْرَانُ النِّعْمَةِ بِجَحْدِهَا أَنْ يَكُونَ الْمُنْعِمُ بِهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِضَافَتُهَا إلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ ادَّعَوْا لَهُ الْإِلَهِيَّةَ. وَالْآخَرُ كُفْرٌ مِنْ جِهَةِ الْجَهْلِ بِاَللَّهِ تَعَالَى, وَكُلُّ جَاهِلٍ بِاَللَّهِ كَافِرٌ لِتَضْيِيعِهِ حَقَّ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى, فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مُضِيفِهَا إلَى غَيْرِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} مَعْنَاهُ: مَنْ يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إنْ أَرَادَ هَلَاكَ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ. وَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ الِاحْتِجَاجِ وَأَوْضَحِهِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَسِيحُ إلَهًا لَقَدَرَ عَلَى دَفْعِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى إهْلَاكَهُ وَإِهْلَاكَ غَيْرِهِ, فَلَمَّا كَانَ الْمَسِيحُ وَسَائِرُ الْمَخْلُوقِينَ سَوَاءً فِي جَوَازِ وُرُودِ الْمَوْتِ وَالْهَلَاكِ عَلَيْهِمْ, صَحَّ أنه ليس
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute