للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَا الِاعْتِرَاضَ بِهِ عَلَيْهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ قَوْلَ مَنْ خَالَفَ الْقُرْآنَ فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ غَيْرُ مَقْبُولٍ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَا جَاءَكُمْ مِنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَهُوَ عَنِّي وَمَا خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ فَلَيْسَ عَنِّي" فَهَذَا عِنْدَنَا فِيمَا كَانَ وُرُودُهُ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ، فَأَمَّا مَا ثَبَتَ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ فَجَائِزٌ تَخْصِيصُ الْقُرْآنِ بِهِ وَكَذَلِكَ نَسَخَهُ قَوْلُهُ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:٧] عَنْهُ فَانْتَهُوا فَمَا تَيَقَّنَّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ فَإِنَّهُ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ الْقُرْآنِ، فَجَائِزٌ تَخْصِيصُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ وَكَذَلِكَ نَسْخُهُ.

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} . روي عن الحسن: {خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} يَعْنِي بِهِ آدَمَ; لِأَنَّهُ قَالَ: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ} وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ خَلْقِ آدَمَ وَتَصْوِيرِهِ, وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} [البقرة:٦٣] أَيْ مِيثَاقَ آبَائِكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمْ الطُّورَ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} [البقرة:٩١] وَالْمُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْتُلُوا الْأَنْبِيَاءَ وَقِيلَ: {ثُمَّ} رَاجِعٌ إلَى صِلَةِ الْمُخَاطَبَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ إنَّا نُخْبِرُكُمْ أَنَّا قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ. وَحُكِيَ عَنْ الْأَخْفَشِ: {ثُمَّ} هَهُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ. وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ أَنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس:٤٦] وَمَعْنَاهُ: وَاَللَّهُ شَهِيدٌ.

قَوْله تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ بِنَفْسِ وُرُودِهِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى قَرِينَةٍ فِي إيجَابِهِ; لِأَنَّهُ عَلَّقَ الذَّمَّ بِتَرْكِهِ الْأَمْرَ الْمُطَلَّقَ. وَقِيلَ في قوله تعالى {أَلَّا تَسْجُدَ} إنَّ " {لَا} " هَهُنَا صِلَةٌ مُؤَكِّدَةٌ. وَقِيلَ إنَّ مَعْنَاهُ: مَا دَعَاك إلَى أَنْ لَا تَسْجُدَ وَمَا أَحْوَجَك؟ وَقِيلَ فِي السُّجُودِ لِآدَم وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: التَّكْرُمَةُ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ امْتَنَّ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ وَذَكَّرَهُ بِالنِّعْمَةِ فِيهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ قِبْلَةً لَهُمْ كَالْكَعْبَةِ.

قَوْله تَعَالَى: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} . قِيلَ فِيهِ: خَيَّبَتْنِي، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

وَمَنْ يَغْوِ لَا يَعْدَمْ عَلَى الْغَيِّ لَائِمَا

يَعْنِي: مِنْ يَخِبْ. وَحَكَى لَنَا أَبُو عُمَرَ غُلَامُ ثَعْلَبٍ عَنْ ثَعْلَبٍ عَنْ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ: يُقَالُ غَوَى الرَّجُلُ يَغْوِي غَيًّا إذَا فَسَدَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ أَوْ فَسَدَ هُوَ فِي نَفْسِهِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:١٢١] أَيْ فَسَدَ عَلَيْهِ عَيْشُهُ فِي الْجَنَّةِ; قَالَ: وَيُقَالُ غَوَى الْفَصِيلُ إذَا لَمْ يَرْوَ مِنْ لبن أمه. وقيل في {أَغْوَيْتَنِي} : أَيْ حَكَمْت بِغَوَايَتِي، كَقَوْلِك أَضْلَلْتَنِي أَيْ حَكَمْت بضلالتي. وقيل: {أَغْوَيْتَنِي} أَيْ أَهْلَكْتَنِي. فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ مُحْتَمَلَةٌ فِي إبْلِيسَ. وقَوْله تَعَالَى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} يَحْتَمِلُ فَسَادَ أَمْرِهِ فِي الْجَنَّةِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>