سَائِرِ الْكِنَايَاتِ فَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ فِيهِ بِنَفْسِ الْإِيلَاءِ إلَّا بِانْضِمَامِ مَعْنًى آخَرَ إلَيْهِ وَهُوَ تَرْكُ الْجِمَاعِ فِي الْمُدَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: "وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك" قَدْ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ; إذْ كَانَ التَّحْرِيمُ يَمْنَعُ الْقُرْبَ؟ وَأَمَّا اللِّعَانُ فَلَيْسَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَالًا عَلَى التَّحْرِيمِ بِحَالٍ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ صَادِقًا فِي قَذْفِهِ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَحْرِيمًا; أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهَا بِالزِّنَا لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ تَحْرِيمًا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا وَالْمَرْأَةُ صَادِقَةً فَذَلِكَ أَبْعَدُ؟ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى التَّحْرِيمِ; قَالَ: فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ دُونَ إحْدَاثِ تَفْرِيقٍ إمَّا مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْحَاكِمِ. وَأَيْضًا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ ابْتِدَاءُ اللِّعَانِ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ كَانَ كَذَلِكَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ الْفُرْقَةِ، وَلَمَّا صَحَّ ابْتِدَاءُ الْإِيلَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاكِمٍ لَمْ يُحْتَجْ فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُمَا لَوْ تَرَاضَيَا عَلَى الْبَقَاءِ عَلَى النِّكَاحِ لَمْ يُخَلِّيَا وَذَلِكَ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ قَدْ أَوْجَبَ الْفُرْقَةَ، فَوَاجِبٌ أَنْ تَقَعَ الْفُرْقَةُ فِيهِ بِنَفْسِ اللَّعَّانِ دُونَ سَبَبٍ آخَرَ غَيْرِهِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا مُنْتَقَضٌ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ; لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ ارْتِدَادَ الْمَرْأَةِ لَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ إلَّا بِحُدُوثِ سَبَبٍ آخَرَ وَهُوَ مُضِيُّ ثَلَاثِ حِيَضٍ، فَإِذَا مَضَتْ ثَلَاثُ حِيَضٍ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ، وَلَوْ تَرَاضِيًا عَلَى الْبَقَاءِ عَلَى النِّكَاحِ لَمْ يُخَلَّيَا وَذَلِكَ وَلَمْ تُوجِبْ الرِّدَّةُ بِنَفْسِهَا الْفُرْقَةَ دُونَ حُدُوثِ مَعْنًى آخَرَ، وَعِنْدَنَا لَوْ تَزَوَّجَتْ امْرَأَةٌ زَوْجًا غَيْرَ كُفْءٍ وَطَالَبَ الْأَوْلِيَاءُ بِالْفُرْقَةِ لَمْ يُعْمَلْ تَرَاضِي الزَّوْجَيْنِ فِي تَبْقِيَةِ النِّكَاحِ وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ بِخُصُومَةِ الْأَوْلِيَاءِ حَتَّى يُفَرِّقَ الْحَاكِمُ; فَهَذَا الِاسْتِدْلَال فَاسِدٌ عَلَى أَصْلِ الْجَمِيعِ. وَأَيْضًا فَإِنَّك لَمْ تَرُدَّهُ إلَى أَصْلٍ، وَإِنَّمَا حَصَلْت عَلَى دَعْوَى عَارِيَّةٍ مِنْ الْبُرْهَانِ. وَأَيْضًا جَائِزٌ عِنْدَنَا الْبَقَاءُ عَلَى النِّكَاحِ بَعْدَ اللِّعَانِ; لِأَنَّهُ لَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ قَبْلَ الْفُرْقَةِ لَجُلِدَ الْحَدَّ وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا.
فَإِنْ قِيلَ: هُوَ مِثْلُ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَالرَّضَاعِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْفُرْقَةِ بِأَنْفُسِهَا لَا يُحْتَاجُ فِي صِحَّةِ وُقُوعِهَا إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ، وَاللِّعَانُ لَيْسَ بِسَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْفُرْقَةِ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَقَعَ بِهِ الْفُرْقَةُ إذَا تَلَاعَنَا عِنْدَ غَيْرِ الْحَاكِمِ، وَأَيْضًا لَيْسَ كُلُّ سَبَبٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَسْخٌ يُوجِبُهُ بِنَفْسِهِ، وَمِنْ الْأَسْبَابِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَمِنْهَا مَا لَا يُوجِبُهُ إلَّا بِحُدُوثِ مَعْنًى آخَرَ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَيْعَ نَصِيبٍ مِنْ الدَّارِ يُوجِبُ الشُّفْعَةَ لِلشَّرِيكِ وَلَا يَنْتَقِلُ إلَيْهِ بِنَفْسِ الطَّلَبِ وَالْخُصُومَةِ دُونَ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا الْحَاكِمُ؟ وَكَذَلِكَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَخِيَارُ الصَّغِيرِ إذَا بَلَغَ وَنَحْوُ ذَلِكَ هَذِهِ كُلُّهَا أَسْبَابٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا فَسْخُ الْعُقُودِ ثُمَّ لَا يَقَعُ الْفَسْخُ بِوُجُودِهَا حَسْبَ دُونِ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِهِ، فَهُوَ عَلَى مَنْ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ بِاللِّعَانِ دُونَ تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ. وَأَمَّا عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ فَإِنَّهُ ذَهَبَ فِي قَوْلِهِ إنَّ اللِّعَانَ لَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute