للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النَّاسُ} فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا وَمَنْ دَانَ دِينَهَا أَنْ يَأْتُوا عَرَفَاتٍ فَيَقِفُوا بِهَا مَعَ النَّاسِ وَيُفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ. وَحُكِيَ عَنْ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْوُقُوفَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَأَنْ يُفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: إنَّهُ إنَّمَا قَالَ: {النَّاسُ} وَأَرَادَ إبْرَاهِيمَ وَحْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: ١٧٣] وَكَانَ رَجُلًا وَاحِدًا. وَلِأَنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا كَانَ الْإِمَامَ الْمُقْتَدَى بِهِ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى أُمَّةً كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمَّةِ الَّتِي تَتَّبِعُ سُنَّتَهُ، جَازَ إطْلَاقُ اسْمِ النَّاسِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُوَ وَحْدَهُ. وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ لِاتِّفَاقِ السَّلَفِ عَلَيْهِ، وَالضَّحَّاكُ لَا يُزَاحِمُ بِهِ هَؤُلَاءِ، فَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ النَّاسَ هَاهُنَا وَأَمَرَ قُرَيْشًا بِالْإِفَاضَةِ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَعْظَمَ النَّاسِ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ دِينَهَا قَلِيلَةً بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِمْ; فَلِذَلِكَ قَالَ: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} .

فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} وَ"ثُمَّ" يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ لَا مَحَالَةَ، عَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْإِفَاضَةَ هِيَ بَعْدَ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَلَيْسَ بَعْدَهَا إفَاضَةٌ إلَّا مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ وَهِيَ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ، أَوْلَى مِنْهُ عَلَى الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَةَ; وَلِأَنَّ الْإِفَاضَةَ مِنْ عَرَفَةَ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهَا. قِيلَ لَهُ: إنَّ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} عَائِدٌ إلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ، وَهُوَ الْخِطَابُ بِذِكْرِ الْحَجِّ وَتَعْلِيمِ مَنَاسِكِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا الْمَأْمُورُونَ بِالْحَجِّ مِنْ قُرَيْشٍ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ فَيَكُونُ ذَلِكَ رَاجِعًا إلَى صِلَةِ خِطَابِ الْمَأْمُورِينَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} [الأنعام: ١٥٤] ، وَالْمَعْنَى: بَعْدَ مَا ذَكَرْنَا لَكُمْ أَخْبَرْنَا كَمْ أَنَّا آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ. وَيَجُوز أَنْ يَكُونَ ثُمَّ بِمَعْنَى الْوَاوِ فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: وَأَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: ١٧] مَعْنَاهُ: وَكَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا، وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: ٤٦] مَعْنَاهُ: وَاَللَّهُ شَهِيدٌ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ سَائِغًا فِي اللُّغَةِ ثُمَّ رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ مَا ذَكَرْنَا، لَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُكَ إنَّ ذِكْرَ عَرَفَاتٍ قَدْ تَقَدَّمَ في قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} فَلَا يَكُونُ لِقَوْلِهِ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} وَجْهٌ فَلَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى إيجَابِ الْوُقُوفِ، وَقَوْلَهُ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} هُوَ أَمْرٌ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ يَقِفُ بِعَرَفَةَ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَدْ أَفَادَ بِهِ مِنْ إيجَابِ الْوُقُوفِ مَا لَمْ يَتَضَمَّنْهُ قَوْلُهُ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} إذْ لَا دَلَالَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} عَلَى فَرْضِ الْوُقُوفِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ اُقْتُصِرَ

<<  <  ج: ص:  >  >>