للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

على قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} لَكَانَ جَائِزًا أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّهُ خِطَابٌ لِمَنْ كَانَ يَقِفُ بِهَا دُونَ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَرَى الْوُقُوفَ بِهَا، فَيَكُونُ التَّارِكُونَ لِلْوُقُوفِ عَلَى جُمْلَةِ أَمْرِهِمْ فِي الْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ دُونَ عَرَفَاتٍ، فَأَبْطَلَ ظَنَّ الظَّانِّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} .

وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ مَعَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لَا حَجَّ لَهُ، وَنَقَلَتْهُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْلًا وَعَمَلًا. وَرَوَى بُكَيْر بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر الدِّيلِيِّ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ: كَيْفَ الْحَجُّ؟ قَالَ: "الْحَجُّ يَوْمُ عَرَفَةَ، مَنْ جَاءَ عَرَفَةَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ الصُّبْحِ، أَوْ يَوْمَ جَمْعٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ". وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضْرِسٍ الطَّائِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ بِالْمُزْدَلِفَةِ: "مَنْ صَلَّى مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ وَوَقَفَ مَعَنَا هَذَا الْمَوْقِفَ وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْل ذَلِكَ لَيْلًا، أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَجَابِرٍ: إذَا وَقَفَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَالْفُقَهَاءُ مُجْمِعُونَ عَلَى ذَلِكَ.

وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَنْ لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ لَيْلًا، فَقَالَ سَائِرُهُمْ: إذَا وَقَفَ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَإِنْ دَفَعَ مِنْهَا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا إنْ لَمْ يَرْجِعْ قَبْلَ الْإِمَامِ، وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: إنْ لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ بَطَل حَجُّهُ وَأَصْحَابَهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ; لِأَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ فَرْضَ الْوُقُوفِ بِاللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ، وَأَنَّ الْوُقُوفَ نَهَارًا غَيْرُ مَفْرُوضٍ وَإِنَّمَا هُوَ مَسْنُونٌ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ مَنْ دَفَعَ مِنْ عَرَفَاتٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَسَدَ حَجُّهُ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ: "وَأَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا، أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ" فَحَكَمَ بِصِحَّةِ حَجِّهِ وَإِتْمَامِهِ بِوُقُوفِهِ فِي أَحَدِ الْوَقْتَيْنِ مِنْ لَيْلٍ، أَوْ نَهَارٍ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} و"حَيْثُ" اسْمٌ لِلْمَوْضِعِ، وَهُوَ عَرَفَاتٌ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: "أَفِيضُوا مِنْ عَرَفَاتٍ" وَلَمْ يُخَصِّصْهُ بِلَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرٌ لِلْوَقْتِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ وَقَفَ فِيهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّا وَجَدْنَا سَائِرَ الْمَنَاسِكِ ابْتِدَاؤُهَا بِالنَّهَارِ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِيهِ اللَّيْلُ تَبَعًا، وَلَمْ نَجِدْ شَيْئًا مِنْهَا يَخْتَصُّ بِاللَّيْلِ حَتَّى لَا يَصِحَّ فِعْلُهُ فِي غَيْرِهِ فَقَوْلُ مَنْ جَعَلَ فَرْضَ الْوُقُوفِ بِاللَّيْلِ خَارِجٌ عَنْ الْأُصُولِ، أَلَا تَرَى أَنَّ طَوَافَ الزِّيَارَةِ، وَالْوُقُوفَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَالرَّمْيَ، وَالذَّبْحَ، وَالْحَلْقَ كُلُّ ذَلِكَ مَفْعُولٌ بِالنَّهَارِ؟ وَإِنَّمَا يُفْعَلُ بِاللَّيْلِ عَلَى أَنَّهُ يُؤَخَّرُ عَنْ وَقْتِهِ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ لِلنَّهَارِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَأَيْضًا قَدْ نَقَلَتْ الْأُمَّةُ وُقُوفَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَارًا إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَأَنَّهُ دَفَعَ مِنْهَا عِنْدَ سُقُوطِ الْفَرْضِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ هُوَ النَّهَارُ، وَوَقْتَ

<<  <  ج: ص:  >  >>