هناك من الباحثين المعاصرين، من عزا ذلك إلى ما اشتهر عن المعتزلة من القسوة في التعامل مع مخالفيهم، فممارسات المعتزلة في امتحان العلماء والمخالفين لهم في الرأي، وإكراههم على التسليم لهم، بما يعتقدونه من آراء كمحاولة إجبار الناس والعلماء على قبول قول المعتزلة في قضية خلق القرآن (١) مثلاً أدى إلى تَوَلُّدِ كراهية هذا الفكر عند
(١) عاش الناس في أيام المأمون أياماً عصيبة، حيث أظهر بدعته في القول بخلق القرآن، وأصدر في سنة ثماني عشرة ومائتين، كتاباً إلى نائبه ببغداد يأمره فيه بأن يمتحن القضاة والمحدثين بالقول بخلق القرآن، وبأن القرآن محدث ليس بقديم، وبأن كل محدث مخلوق، وقد أقر بعض الفقهاء هذا الأمر ووافقوا المأمون وهم له كارهون، فاشتهر أمرهم بين الناس، وأحضر خلقاً من علماء الحديث والفقهاء والقضاة وأئمة المساجد. فأقروا بما أقر به أولئك، فاشتد عزم المأمون، ثم كتب إلى نائبه بالأدلة التي اعتمد عليها وأمر أن يقرأ ذلك على الناس. ثم أمر بأن يحضر جمعاً من كبار العلماء وأئمة الحديث فأحضر الإمام أحمد - قدس الله روحه - وجمعاً من علماء عصره، فامتحنهم، فكان إذا سألهم عن القرآن قالوا: هو كلام الله، وكانت معه رقعة طلب منهم أن يقروه بما فيها، ومفادها: (أشهد أن لا إله إلا الله، أحداً فرداً، لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء، ولا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني، ولا وجه من الوجوه)، فكانوا يقرونه بما في هذه الورقة، وكانوا يفعلون ذلك مكرهين، لأن من لا يوقع كان يعزل من وظيفته وإن كان له رِزقٌ على بيت المال قطع، وإن كان مفتياً منع من الإفتاء. فلما جاء الدور على الإمام أحمد، رفض الإجابة ونفى خلق القرآن، وأعلن اعتقاده الصحيح بأنه منزل غير مخلوق فحمل الإمام إلى المأمون، ولكن الله أهلك المأمون قبل أن يلتقي الإمام أحمد. فتولى بعده ابنه المعتصم، وانضم إليه أحمد بن أبي دؤاد، وكان مع الإمام أحمد محمد بن نوح، وناله مع أحمد أذى كثير، ومات محمد بن نوح في الطريق وصلى عليه أحمد. وحمل أحمد إلى المعتصم، وقد قُيِّدَ - رحمه الله - وضرب وأوذي، وجرت بينه وبين خصومه مناظرات طويلة ليس هذا مجال ذكرها، واستمرت المحنة، حتى أيام الواثق، وانتهت بأيام المتوكل والذي أقر بألاَّ تُباع - ومنع نشر كتب الكلام والفلسفة بين الناس. انظر البداية والنهاية ١٤/ ٢٠٧ - ٢٢٤، تاريخ الطبري ٨/ ٦٣١، سير أعلام النبلاء ١١/ ١٧٧ - ٣٥٨.