بيد أن الإنسان مفطور على غرائز ترافقها آمال ومطامع نفسية غير ذات حدود، فهي لا تكف عن الطلب والمتابعة، والرغبة بالحيازة والتملك، أو السطو والتسلط، مهما نالت ما يكفيها ويغنيها، ومهما جمعت ما يكفي ذرياتها ويغنيهم، ولو إلى ألوف الأجيال من وارئها، فلو أوتي ابن آدم واديًا من ذهب لابتغى إليه ثانيًا، ولو أتى لابتغى إليه ثالثًا، وهكذا تتجدد مطامعه إلى ما لا نهاية له، وكم أدى الحقد ببعض المتسلطين إلى أن يدمروا مدنًا، ويقوضوا حضارات، ويقتلوا مئات الألوف من الناس.
ولما جعل الخالق العظيم غرائز الإنسان منفتحة الحدود وهبه العقل والإرادة ليكبح جماح غرائزه وشهواته ومطامعه، ويحدها في الحدود النافعة، ويكفها عن التجاوز الضار به أو بالمجتمع الإنساني المشارك له في سكنى الأرض، والعيش في هذه الحياة الدنيا، وأنزل له الشرائع السماوية تعليمًا وتربية، وترغيبًا وترهيبًا، وذلك ليبلوه في ظروف الحياة الدنيا، ثم ليحاسبه ويجازيه يوم الدين.
وحينما يعطل الإنسان عقله وإرادته عما خلقا من أجله، فإنه سيهوي حتمًا إلى همجية سحيقة، أحسن مرتبة من همجية الأنعام، بل أخس مرتبة من همجية الوحوش المفترسة.
إذن فلا يصح أن تقاس حضارة الإنسان المثلى على وجه العموم بمقدار ما يتوصل إليه من تقدم في ابتكار الوسائل المادية، التي تخدم الجسد الفاني، وتحقق لذاته، ومتعه وراحته وقوته، واختصاره الزمن له، وتقريب المسافات وإنما هي لون حضاري يتناول جانبًا من جوانب النشاط الإنساني، وهو الجانب المادي.
ولا يرتقي هذا النشاط المادي في سلم الخير ما لم يرافقه تقدم حضاري اجتماعي ونفسي وفكري ضمن الأسس الدينية الربانية، وإلا كان تدنيا في درك الشر، وسببًا للإفراط في الهمجية، والبعد عن كل مرتقى حضاري كريم.