وهنا نلاحظ أنه يعسر على كثير من قصيري النظر أن يفهموا الرقي الحضاري إلا في مجال التقدم المادي، القائم على إمتاع الجسد ورفاهيته، واختصار الزمن، وتنمية وسائل القوة، وهؤلاء هم الذين يقعون في الغالب فريسة تضليلات أعداء الإسلام.
مع أن الرقي الحضاري في جانب الوسائل المادية فقط، والمقرون بالتخلف الحضاري في جوانب المفاهيم الفكرية الراقية، عن الكون والإنسان والحياة والوجود بأسره، والمقرون بالتخلف الحضاري، في العقائد الصحيحة، والأخلاق الكريمة، والعلاقات الاجتماعية الخيرة، والمراقي النفسية والروحية المشرقة، لا بد كما أوضحنا آنفًا من أن يسوق الإنسانية إلى شر مستطير، تقوض فيه بنفسها أركان حضارتها، التي تصنعها في أجيال وقرون، وتذمر فيه بنفسها أبنية مجدها المادي الذي بلغته، مهما تكن درجته تبهر الناظرين، وتدهش الأنفس، فيأخذ بتمجيدها قصار النظر الذين ينظرون إلى السطوح فقط، ولا يتفكرون فيما وراء هذه السطوح من شرور كمينة، سيصيبها الانفجار، الذي يحدث به الدمار، متى لامستها شرارة من الغضب أو الحقد أو الطمع أو الحسد، أو الأنانية الضيقة، أو التعصب الذميم، أو الجنوح الفكري عن منهج الحق والعدل والخير للإنسانية جمعاء.
وذلك لأن التقدم في تحسين وسائل الرفاهية وقوى الفتك، مع همجية المفاهيم الفكرية، والمعتقدات الفاسدات، ومع الأخلاق الشرسة، والغرائز المتوحشة، والشهوات العارمات، والرغبة بالتسلط والانتقام، والاستئثار بكل خيرات الدنيا، أشد خطرًا على الإنسانية ومعالم حضارة القرون الزاهرة من التخلف في هذا المجال، مهما يكن تخلفًا قبيحًا.
فالوسائل المتقدمة ستغري الغرائز المتوحشة الهمجية بالفتك والعدوان والظلم، كما تثير نزوات الغضب، وحفائظ الحقد والتعصب في طبائع الإنسان الهمجي، وذلك بما تشعره من قدرة على تلبية نزواته وأهوائه، ورعوناته، دون أن يكون عرضة لانتقام الآخرين منه بشكل مؤكد.