ولا معرفة مقبولة، ولو في أدنى حدود القبول، وذلك لأنها لا تحتوي على أدلة مرجحة، فضلًا عن أنها تحتوي على أدلة تفيد العلم اليقيني.
ومن أمثلة ذلك الفكرة التي كانت شائعة عند الفلاسفة في تعليل كيفية رؤية الأشياء بالأبصار؛ إذ إنهم كانوا يتوهمون أن الشعاع يتجه من الأبصار إلى الأشياء القابلة للرؤية، فإذا مسها ذلك الشعاع رأتها الأعين، فهذه الفكرة عند الفلاسفة ليس لها مستند من الدليل إلا مجرد التوهم والتخيل وترجيح أحد الاحتمالين المتساويين من دون مرجح، ولما جاء المسلمون صححوا هذه الفكرة بالدليل المرجح، فأثبتوا أن أشعة الأضواء الكونية هي التي تصطدم بالأشياء فتنعكس عنها فتراها الأعين، وجاءت العلوم الحديثة فأيدت ما أثبته المسلمون.
ومن أمثلة ذلك أيضًا ما يحدث لي ويحدث لغيري كثيرًا، نكون في محطة من محطات قطارات السكة الحديدية، فنركب أحد القطارات الواقفة، وفي جواره قطار آخر واقف أيضًا، فيسير القطار المجاور فنتوهم أن قطارنا هو الذي مشى، وقد يسير قطارنا فنتوهم أن القطار المجاور لنا هو الذي سار، فالذي يسمح لتوهماته أن تسيطر عليه دون أن يمتحنها بالدليل سيسجل ضمن معارفه الثابتة أوهامًا كثيرة يظنها علومًا، بيد أن المنطق السليم الذي رسم الإسلام لنا منهجه لا يقبل ذلك بحال من الأحوال.
وإذا استعرضنا معارف الأمم والشعوب القديمة والحديثة وجدنا فيها خرافات كثيرات، وأوهامًا لا حصر لها، وإذا تتبعنا أصول هذه الخرافات والأوهام وجدنا أن مصدرها مستند إلى توهم أو تخيل أو تزوير من مضلل ذي مصلحة، أو مستند إلى انحراف عن أصل صحيح، أو نحو ذلك، ثم استمرت هذه الخرافات والأوهام في أجيال تلك الأمم والشعوب بعامل التعصب المقيت، والتقليد الأعمى.
وأكثر الخرافات والأوهام انتشارًا في الشعوب تلك التي تدعمها نزعات سياسية معينة، سواء ظهرت بثوب معتقدات دينية، أم روايات تاريخية، أم أفكار واتجاهات إلحادية، أم مذاهب اجتماعية أم اقتصادية، وشياطين المصالح الخاصة هم الذين يزينون الأوهام والخرافات للناس، ويلبسونها الشعارات المحببة، بوساوسهم ودسائسهم، وذلك كي يسلموا بها ويعتقدوها، ويندفعوا لتأييدها جنودًا مطيعين، وبتأييدها والاندفاع وراءها ينال شياطين المصالح الخاصة ما يأملون من مال أو سلطان أو شهوات.
وحرصًا على سلامة الناس من الزيغ الفكري وضع الإسلام المنهج السليم لاكتساب المعارف والعلوم وحذر تحذيرًا شديدًا من اتباع الأوهام والخرافات، وأمر باجتناب كثير من الظن، وأثبت أن بعض الظن إثم.