للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولئن صح إطلاق مثل هذه الاتهامات في أوروبا يوم كانت الكنيسة تحارب كل تقدم علمي وترق حضاري، فإنه لا يصح بحال من الأحوال أن تعمم حتى تتناول المسلمين بوجه عام، وقد سجل تاريخهم الذهبي قبل عصور الانحطاط أروع صفحات العمل الحثيث لاقتباس كل علم، ومتابعة كل معرفة إنسانية، بالقدر الذي سمحت به ظروف نهضتهم وحضارتهم في المرحلة التاريخية التي تصدوا لقيادتها حينئذ.

ومما هو بعيد عن الإنصاف كل البعد إتهام الإسلام أو المسلمين بالجمود؛ لأن دورًا من أدوار الانحطاط أصاب الشعوب الإسلامية بالتخلف بعد أن تراكبت عليهم مجموعة من الأسباب والعوامل الداخلية والخارجية فساقتهم إليه.

ويمكن وصف هذه الأسباب والعوامل جميعها بأنها أمور دخيلة عليهم، وليست من جوهر تعاليم الإسلام، ولا من أسس تربيتهم الإسلامية التي توارثوها من منبعها الأساسي، الذي تفجر مع فجر الإسلام بالخير والخصب والعلم، وبكل عمل نافع، وبكل تقدم حضاري كريم، وكل حياة سعيدة رغيدة طاهرة من الإثم والشر والفساد في الأرض.

هذه التربية الإسلامية التي قام عليها أول الأمر رسول الله صلوات الله عليه، ثم تلاميذ مدرسته التاريخية من بعده، فقدمت للعالم معجزة تاريخية لا تطاولها معجزة أخرى.

هذه هي التربية العجيبة التي استطاعت أن تحول في ربع قرن شعبًا متخلفًا في ثقافته وحضارته ومدنيته فتجعل منه شعبًا قائدًا رائدًا للعالم المتحضر يومئذ، فاتحًا فكره للعلم، وقلبه للإنسانية جمعاء، ونفسه لحب الخير والسعي إليه حيث كان، ومقدمًا جميع قواه وطاقاته للعمل المثمر في سبيل مجد الإنسانية وسعادتها الدنيوية والأخروية، وفي سبيل تحرير الإنسان من العبوديات المختلفات، وربطه فقط بعبوديته للقوة القاهرة، العليمة الحكيمة غير المنظورة، وهي العبودية لله وحده لا شريك له، وهي العبودية الاعتقادية والعملية الموافقة للحقيقة التي عليها واقع كل مخلوق.

<<  <   >  >>