للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بينهم حمزة عم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجرح رسول الله في وجه، وكسرت رباعيته، وصاح الشيطان قائلاً: إن محمداً قد مات، وفر المؤمنون من ميدان المعركة إلا قليلاً منهم، وفي هذا يقول تعالى: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ١} يريد تنازع الرماة مع قائدهم عبد الله بن جبير، حيث نهاهم عن ترك مقاعدهم وذكرهم بأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنازعوه في فهمه وخالفوا الأمر ونزلوا، وكان ذلك بعد أن رأوا إخوانهم قد انتصروا وأعدائهم قد انهزموا٢، وهو معنى قوله تعالى: {وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} أي: من النصر {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ٣ الدُّنْيَا} وهم الذين نزلوا إلى الميدان يجمعون الغنائم، {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} وهم: عبد الله بن جبير والذين صبروا معه في مراكزهم حتى استشهدوا فيها، وقوله تعالى: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} وذلك إخبار عن ترك القتال لما أصابهم من الضعف حينما رأوا أنفسهم محصورين بين رماة المشركين ومقاتليهم فأصعدوا في الوادي هاربين بأنفسهم، وحصل هذا بعلم الله تعالى وتدبيره، والحكمة فيه أشار إليها تعالى بقوله: {لِيَبْتَلِيَكُمْ} أي: يختبركم فيرى المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، والصابر من الجزع، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} يريد أنه لو شاء يؤاخذهم بمعصيتهم أمر رسوله، فسلط عليهم المشركين فقتلوهم أجمعين، ولم يبقوا منهم أحداً إذ تمكنوا منهم تماماً ولكن الله سلم. هذا معنى: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٥٢) ، أما الآية الثانية (١٥٣) فهي تصور الحال التي كان عليها المؤمنون بعد حصول الانكسار والهزيمة٤ فيقول تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ} أي: عفا عنكم في الوقت الذي فررتم في المصعدين في الأودية هاربين من المعركة والرسول يدعوكم من ورائكم إليَّ عباد الله ارجعوا، وأنتم فارون لا تلوون على أحد، أي: لا تلتفتوا إليه. وقوله تعالى: {فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ} يريد جزاكم على معصيتكم غماً، والغم: ألم النفس لضيق الصدر وصعوبة


١ آل في الأمر: نائبة عن المضاف، إذ التقدير في أمركم وشأنكم.
٢ نعم انهزم المشركون في أول المعركة حتى شوهدت نسائهم عن سوقهن هاربات في أعلى الجبل خوفاً من الأسر، ومن بينهم هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان.
٣ إرادة الدنيا وحدها غير معصية ولكن ما ترتبت عنها من ترك طاعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فطالب الدنيا إذا طلبها من حلها ولم يخل طلبه بواجب ولم يحمله على فعل حرام لا يأثم ولا يلام.
٤ لما تمت الهزيمة جلس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع بعض أصحابه على صخرة من سفح أحد فجاء أبو سفيان فارتفع على نشز من الأرض، وقال: أفي القوم محمد؟ فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تجيبوه" ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تجيبوه". ثم قال: أفي القوم عمر؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تجيبوه". ثم التفت إلى أصحابه وقال: أما هؤلاء فقد قتلوا. فقال له عمر: كذبت يا عدوا الله، فقد أبقى لك الله من يخزيك به. فقال: أعل هبل. مرتين. فأجابوه بأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائلين. الله أعلى وأجل. فقال: لنا العزة ولا عزة لكم. فقالوا بأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الله مولانا ولا مولى لكم.

<<  <  ج: ص:  >  >>