للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[الشيخ حسن أيوب ووراثة النبوة]

بقلم أ. أحمد زكريا عبد اللطيف

إنَّ أعظمَ مصيبةِ حصلت في الإسلام المصيبةُ بوفاة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، والمصائبُ العظمى بعد تلك المصيبة إنَّما هي بموت ورثتِه صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياء، وإنَّ الأنبياءَ لَم يُورِّثوا ديناراً ولا درهماً، وإنَّما ورَّثوا العلمَ، فمَن أخذ به، أخذ بحظٍّ وافر))، رواه أبو داود وغيرُه، وسنده حسن.

* ومن هؤلاء الورثة العظام شيخنا حسن أيوب الذي أسلم قياده لمولاه ولحق بالرفيق الأعلى في يوم الخميس الماضي .. الرابع عشر من شهررجب ١٤٢٩ الموافق١٧/ ٧/٢٠٠٨.

وتلك وربي من أعظم البلايا التي تحيق بالأمة الإسلامية .. وإن كان عزاؤنا فيمن بقي من علماءنا ومشايخنا .. نسأل الله أن يحفظهم ذخرا للإسلام.

وقد قضى الشيخ حسن رحمه الله تعالى نحبه، بعد رحلة مديدة من العطاء والبذل لدين الله عز وجل، والشيخ حسن علم بارز، لكن مع وجود هذا المناخ الفاسد، وانتشار الفضائيات انقلبت الموازين، فتصدر ضعاف الدعاة، واستأسد الحمل، واعتلى منابر الدعوة أشباه العلماء إلا من رحم الله تعالى، وانخدع الشباب بهذا البريق الزائف، وغفلوا عن أولئك الأعلام الذين هم شعار الأمة ودثارها.

* من أجل ذلك كان هذا المقال الموجز من أجل التعريف برجل من الذين سبقونا، عرفانا بحقهم وفضلهم، وإظهارا ً للقدوة الصالحة التي ترسم الطريق الصحيح لشبابنا.

[المولد والنشأة]

* ولد الشيخ حسن محمد أيوب في العشرينيات من القرن العشرين، في مركز منوف بمحافظة المنوفية، لأبوين كريمين في أسرة تحكمها أخلاق الريف الأصيلة، مما غرس فيه منذ النشأة التواضع والتبسط مع الناس .. وتلك من أهم أسباب نجاح الداعية، ثم ألحقه أبوه بالكتاب فمن الله عليه بحفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، مما شجع والده على إلحاقه بالأزهر الشريف، أملا ً في أن يكون عالما ً كبيرا ً من علماء الإسلام، وقد تحقق الأمل بفضل الله تعالى، حتى تخرج من كلية أصول الدين عام١٩٤٩.

[رحلة الشيخ العملية]

* بدأ فضيلته حياته العملية مدرسًا بوزارة التربية، وكان مشهودا ً له بإتقان العمل والتمكن العلمي والتواصل مع الطلاب والقدرة الفائقة على إيصال المعلومة وتبسيطها برغم صعوبة المناهج في تلك الفترة، ثم انتقل للعمل موجهًا بوزارة الأوقاف، ثم مديرًا للمكتب الفني بها.

[الشيخ والحركة الإسلامية]

*وبعد ازدهار دعوة الإخوان وانتشارها، كان للشيخ دور بارز في الدعوة، لمكانته كشيخ أزهري مع قدراته العلمية والخطابية والدعوية المؤثرة، فقد كان الشيخ رحمه الله من فرسان المنابر العظام فإذا تكلم أسمع، وإذا وعظ أثر مع طرافة في الأسلوب، وذهن حاضر متقد، فمدرسته قريبة من مدرسة الشيخ كشك رحمه الله.

* فعندما احتدت الأزمة بين الإخوان وضباط الثورة .. كان للشيخ نصيب مما نال الإخوان من الإيذاء والاعتقال، حتى ضاقت أرض مصر به فكانت رحلته للخليج .. وعندها ذهب لدولة الكويت، فعمل بها واعظًا وخبيرًا ومؤلفًا، وكانت له عطاءاته في كل مجال من هذه المجالات، فترك بصمة واضحة في مجال الدعوة والتربية حتى افتقده أهل الكويت كثيرا ً بعد رحيله، وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.

* ثم بدأت مرحلة جديدة في حياة الشيخ الدعوية والعلمية وكانت من أخصب مراحل حياته هي مرحلة انتقاله إلى المملكة العربية السعودية .. حيث عمل أستاذًا للثقافة الإسلامية بجامعة الملك عبد العزيز، ثم أستاذًا بمعهد إعداد الدعاة بمكة المكرمة، فتخرج على يديه الكثير من الطلاب التلاميذ والدعاة.

[عودته إلى مصر]

* وبعد أن كبر السن وضعفت القوى، حن الشيخ لوطنه، فعاد ليكمل مسيرة العطاء في مركزه منوف فأخذ يواصل الجهاد والعطاء بإقامة الدروس والمحاضرات ولم يكتف بمسجده في منوف، بل امتدت دعوته لتشمل الطلاب الوافدين للدراسة بكلية الهندسة جامعة المنوفية .. والموجودة بمركز منوف، فكان يلقي المحاضرات ويتعهد الطلاب بالنصائح الغالية.

* وكان رحمه الله له دور اجتماعي، فكان يتعهد فقرائهم بالمعونات المادية، ويحاول جاهدا أن يبذل جهده وطاقته لراحتهم وإسعادهم، وظل على هذا الحال حتى حيل بينه وبينهم بسبب الظروف التي مرت بها البلاد وقتها، وظل رحمه الله يؤدي رسالته بحسب ما يتاح له من فرص ووسائل ومناسبات .. حتى لقي ربه يوم الخميس الماضي رحمه الله رحمة واسعة.

[مكانته عند الناس]

* للشيخ ـ رحمه الله ـ مكانةٌ مرموقةٌ ومنزلةٌ رفيعةٌ، فقد رُزق القبول، وأحبَّه الناسُ، وحرصوا على سماع دروسه وفتاواه، واقتفاء آثاره العلمية، وأشرطة دروسه ومحاضراته، وهو عالٍمٌ كبيرٌ، وفقيهٌ متمكِّن .. وقد كان الناس يفزعون إليه عند الملمات، فيجدون عنده ما يخفف عنهم هموم الدنيا ومصائبها.

* ومما يذكر له أن كثيرا ً من الآباء ذهبوا إليه لينصح أبناءهم بحلق لحاهم عند اشتداد القبضة الأمنية في التسعينيات، فرفض رحمه الله، وأوصاهم بأن يتركوا أبناءهم يتمسكون بسنة الحبيب صلى الله عليه وسلم، فكان لهذا فعل السحر في قلوب الآباء، وامتلأت قلوبهم ثقة في الله جل وعلا.

[تراث الشيخ العلمي والدعوي]

* وقد ترك الشيخ رحمه الله تراثا ضخما، يتمثل في مكتبته الصوتية تلك التي بلغت أكثر من ألف شريط كاسيت وفيديو .. كذلك ضمّنها الشيخ الإسلام كله بكلياته وفروعه على شكل سلاسل صوتية رائعة ومن أمثلتها:

* سلسلة قصص الأنبياء: وقد حققت السلسلة شهرة واسعة لما تميزت بربط الواقع المعاصر بقصص الأنبياء في أسلوب رائع ضاحك مبك في نفس الوقت، لما يحمله من التهكم والسخرية والمرارة لما يمر به المسلمون في هذه المرحلة الخطيرة من الزمن.

* سلسلة الدار الآخرة: والتي كان لها تأثيرها البالغ في نفوس كل من سمعوها، لما تشعر في أسلوب الشيخ من صدق وإخلاص نحسبه كذلك والله حسيبه.

* كذلك فقد أسهم الشيخ بنصيب وافر في مجال الكتابة فألف مجموعة من الكتب تعتبر نسيج وحدها في أسلوبها وموضوعاتها.

ومن هذه الكتب

* فقه العبادات: وقد شرح فيه الشيخ العبادات في مجلد واحد في أسلوب سهل ممتنع لا تنقصه الرصانة العلمية والملكة الفقهية، ولم ينحاز الشيخ في كتابه لمذهب بعينه، بل ما ترجح بالدليل عنده هو ما يذهب إليه، وقد استفدت كثيرا من هذا الكتاب، في بحثي المعنون ب (ثبوت الهلال بين الرؤية البصرية والحسابات الفلكية).

* السلوك الاجتماعي في الإسلام.

* ومن أخطر كتبه التي أثارت ضجة كبيرة، كتابه: (تبسيط العقائد الإسلامية)،فقد رجح الشيخ حسن أيوب أن المصدق بقلبه ناجٍ عند الله وإن لم ينطق بالشهادتين، (تبسيط العقائد الإسلامية ٢٩ - ٣٢). ومال إليه البوطي (كبرى اليقينيات ١٩٦).

* وفي هذا مخالفة لمذهب أهل السنة والجماعة الذين يقولون إن الإيمان قول وعمل واعتقاد، ومخالفة لنصوص القرآن الكريم الكثيرة منها: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواءً محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) .. عليه يكون إبليس من الناجين من النار لأنه من المصدقين بقلوبهم، وكذلك أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم كثير.

* ويقول في نفس الكتاب: (أهل السنة هم أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتريدي ومن سلك طريقهما، وكانوا يسيرون على طريقة السلف الصالح في فهم العقائد)، (تبسيط العقائد الإسلامية ٢٩٩)، ومخالفة هذا الكلام لعقيدة أهل السنة واضح بين، وليس هذا المقام مقام أخذ ورد.

* وبالرغم من خطورة هذا المعتقد الذي يمثل إلى حد كبير مذهب الأشاعرة، وكان هذا الفهم سببا أساسيا في خروج الشيخ من المملكة السعودية، إلا أني أقول: إنَّ الشيخ ـ رحمه الله ـ من العلماء الذين اجتهدوا وحرصوا على إتباع الدَّليل من الكتاب والسُّنَّة، وله عناية في التحقيق في المسائل والاستدلال عليها بالكتاب والسُّنَّة والإجماع والمعقول، حيث يذكر الأدلَّة إجمالاً ثمَّ يفصِّلها، ويُبيِّن وجهَ الاستدلال، وهو مِمَّن رُزق فقهاً في الدِّين، وعناية في فقه الشريعة أصولاً وفروعاً، وهو كغيره يخطئ ويُصيب، وكلٌّ يؤخذ من قوله ويُردُّ إلاَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* وللشيخ أيوب آراء في مسائل يسيرة، بغض النظر عن هذه المسألة الخطيرة، يرى غيرُه أنَّ الصوابَ على خلاف ما قال، وقد يكون هو المصيب.

* ومن المعلوم أنَّ كلَّ مجتهد للوصول إلى الحقِّ لا يعدم الحصول على أجرٍ أو أجرَين، على أجرين إن أصاب، وأجرٍ واحد إن أخطأ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عمرو ابن العاص قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا حكم الحاكمُ فاجتهدَ ثمَّ أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثمَّ أخطأ فله أجرٌ))، وهذا لفظ البخاري.

فقد قسم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الحكَّام في هذا الحديث إلى قسمين: مصيب ومخطئٌ، فدلَّ على أنَّ الحقَّ يُصيبه من يُصيبه، ويخطئه مَن يخطئه، وأنَّه ليس كلُّ مجتهدٍ في اختلاف التضادِّ مصيباً حقًّا، وإنَّما كلّ مجتهد مصيبٌ أجراً، مع تفاوتِهم في الأجر كما هو واضح من هذا الحديث.

* والحاصلُ أنَّ الشيخَ ـ رحمه الله ـ عالِمٌ كبيرٌ، وعلمُه غزيرٌ، وصوابُه كثير، ونفعُه عميم، فأوصي بالاهتمام بآثاره والاستفادة منها.

وكذلك من كتب الشيخ

* الجهاد والفدائية في الإسلام.

* رحلة الخلود.

* رسائل صغيرة في موضوعات مختلفة كالصلاة والحج وغير ذلك.

* الموسوعة الإسلامية الميسرة .. وهذه الموسوعة هي آخر ما كتب الشيخ وتبلغ حوالي خمسين جزءًا من القطع الصغير، وهي شاملة لكل كليات الاسلام وفروعه وعلومه ومعارفه المختلفة.

وقبل أن أختم مقالي أذكر بعض الآثار عن السلف والتي تدلُّ على مدى عِظم المصيبة بموت العالِم: ـ فعن سَلمان الفارسي قال: ((لا يزال الناسُ بخير ما بقي الأول حتى يتعلَّم الآخِر، فإذا هلك الأوَّلُ قبل أن يتعلَّم الآخِر هلك الناس)) رواه الدرامي في سننه ـ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه لَمَّا مات زيد بن ثابت قال: ((هكذا ذهابُ العلم، لقد دُفن اليوم علمٌ كثير)) رواه الحاكم في المستدرك.

وعن الحسن قال: ((موتُ العالِم ثلمه في الإسلام لا يسدُّها شيء ما طرد الليل والنهار)) رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله.

وعن أيُّوب السّختياني قال: ((إنَّه ليَبلُغنِي موتُ الرَّجل من أهل السُّنَّة، فكأنَّما سقط عضوٌ من أعضائي)) رواه أبو نعيم في الحلية.

وقال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (ص:٧٤): (( ... لَمَّا كان صلاحُ الوجود بالعلماء، ولولاهم كان الناسُ كالبهائم، بل أسوأ حالاً، كان موتُ العالِم مصيبة لا يجبرها إلاَّ خلف غيرِه له، وأيضاً فإنَّ العلماءَ هم الذين يسوسون العبادَ والبلاد والممالك، فموتُهم فسادٌ لنظام العالَم، ولهذا لا يزال اللهُ يغرسُ في هذا الدِّين منهم خالفاً عن سالف يحفظُ بهم دينَه وكتابَه وعبادَه، وتأمَّل إذا كان في الوجود رجلٌ قد فاق العالَم في الغنى والكرم، وحاجتهم إلى ما عنده شديدة، وهو محسنٌ إليهم بكلِّ ممكن ثم مات، وانقطعت عنهم تلك المادة، فموتُ العالِم أعظمُ مصيبة من موت مثل هذا بكثير، ومثل هذا يموت بموته أممٌ وخلائق)).

وقبل ذلك كلِّه ما قاله الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، في الحديث المتفق على صحَّته عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يَقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لَم يُبق عالِماً اتَّخذ الناسُ رؤوساً جُهَّالاً، فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلُّوا وأَضلُّوا))، وهذا لفظ البخاري.

ولا شكَّ أنَّ وجودَ العالِم المحقِّق بين الناس غنيمةٌ عظيمةٌ، يستفيدون من نُصحه، ويستضيئون بنورِ علمِه، فإذا فقدوه شعروا بالفراغ الواسع.

وفي هذا المعنى قال الشاعر:

خَبَتْ مصابيحُ كنّا نستضيء بها ... وطوّحَتْ للمغيب الأنجُمُ الزُّهُرُ

واستحكمتْ غُرْبَةُ الإسلام وانكسفتْ ... شمسُ العلومِ التي يُهدى بها البَشَرُ

وختاماً فقد ورد في صحيح مسلم من حديث أمِّ سلمة رضي الله عنها أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دعا لأبي سلمة عند موتِه فقال: ((اللَّهمَّ اغفر لأبي سلمة، وارفع درجتَه في المهديِّين، واخلفه في عقِبِه في الغابرين، واغفر لنا وله يا ربَّ العالَمين، وأفسح له في قبره، ونوِّر له فيه)).

ونحن نقول: اللَّهمَّ اغفر للشيخ حسن أيوب، وارفع درجتَه في المهديِّين، واخلفه في عقِبِه في الغابرين، واغفر لنا وله يا ربَّ العالَمين، وأفسح له في قبره، ونوِّر له فيه.

ونسألُ اللهَ أن يُوفِّقنا جميعاً لتحصيل العلمِ النافع، والعمل الصالِح، إنَّه سميعٌ مجيب.

وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.

كتبه خادم القرآن

أحمد زكريا عبد اللطيف (باحث شرعي)


(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: المقال من شبكة الألوكة، نسخته هنا للفائدة

<<  <   >  >>