إن الحس الإنساني هوالأصل في إطلاق الكلمة على معنى معين، وليس العكس، أعني: ليست الكلة هي الأصل في إيجاد الحس، ولذلك يزداد نجاح الأديب والخطيب والكتب كلما ازداد استيعبا للكلمات ذات اللمسات المباشرة للمشاعر الوجدانية، والإحساسات الإنسانية التي أوحت بهذه الكلمات، وإذا كان الحس الإنساني هوالأصل في التعبير اللغوي فإن من الطبيعي أن يكون لهذا الحس على الأقل حق التصرف في التعبير اللغوي تصرف المد والجزر والإطلاق والتقييد، والتوسيع والتضييق حسب مقتضى الحال في رأي هذا الحس بشرط واحد فقط: هوأن يظل بين الأصل اللغوي وبين الإطلاق التوسيعي خيط"ولورفيع" منعا للفوضى الكلامية وحفاظا على مكانة الوعاء اللغوي من التدهور والضياع، فبضيع الإنسان نفسه، إذ اللغة قوالب المعاني، والمعاني هي التي تجعل للحياة معنى، وللإنسان كرامة، وللعقل مكانة، ولكل شيئ هوية يعرف بها.
وبناء على ذلك نقول: إن كلمة "تثقيف" في اللغة يصح أن يراد بها مجاز تهذيب وتربية وكلمة "مثقف" تطلق ويراد بها ذوالسلوك الحسن، والأدب الجم، والخلق الكريم، والعمل الصالح. فيقال: فلان مثقف بمنى أنه مؤدب وفاضل بسبب علمه ومعرفته.
وكثيرا ما نسمع هذه العبارة "مثقف" مرادا بها هذا المعنى: "مهذب" في مجتمعنا العادي الذي يعبر عن الأشياء حسب فطرته وطبيعته، فتسمع شخصا يقول لآخر: فلان لا يفعل النقائص، لأنه مثقف. بمعنى مهذب بسبب تعلمه، وفلانة أجدر بك أن تتزوجها لأنها مثقفة. تعني هذبها علمها ودراستها، فالحس الإنساني إذا صار يطلق كلمة "مثقف" ويريد بها المهذب والمؤدب تهذيبا ناشئا عن العلم والمعرفة.
(فالثقافة بناء على هذا تعبير عن السلوك الحسن الناشئ عن العلم والمعرفة) لأنه لا يتصور تهذب وتأدب وتربية بدون علم ومعرفة بالحسن الذي يطلب فعله، والقبيح الذي يطلب تركه، فالمعرفة لازمة للسلوك الحسن غالبا، ثم زاد التوسع في إطلاق الكلمة فصارت تطلق أحيانا على "العلم والمعرفة".