ولا يمكن سلب جميع هذه الصفات عن النفس ومحوها بالكلية فإن الضرورات البدنية جاذبة إليها، إلا أنه يمكن تضعيف تلك العلاقة ولذلك قال تعالى:"وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضيا". إلا أنه إذا ضعفت العلاقة لم تشتد نكاية فراقها وعظم الالتذاذ بما اطلع عليه عند الموت من الأمور الإلهية فأماط أثر مفارقة الدنيا والنزوع إليها على قرب، كمن يستنهض من وطنه إلى منصب عظيم وملك مرتفع فقد ترق نفسه حالة الفراق على أهله ووطنه فيتأذى أذى ما ولكن ينمحى بما يستأنفه من لذة الابتهاج بالملك والرئاسة.
[ولذلك ورد الشرع بالتوسط في الأخلاق]
وإذا لم يكن سلب هذه الصفات ورد الشرع في الأخلاق بالتوسط بين كل طرفين متقابلين لأن الماء الفاتر لا حار ولا بارد فكأنه بعيد عن الصفتين فلا ينبغي أن يبالغ في إمساك المال فيستحكم فيه حرص المال ولا في الإنفاق فيكون مبذراً ولا أن يكون ممتنعاً عن كل الأمور فيكون جباناً ولا منهمكاً في كل أمر فيكون متهوراً، بل يطلب الجود فإنه الوسط بين البخل والتبذير والشجاعة فإنها الوسط بين الجبن والتهور وكذلك في جميع الأخلاق، وعلم الأخلاق طويل والشريعة بالغت في تفصيلها ولا سبيل في تهذيب الأخلاق إلا بمراعاة قانون الشرع في العمل حتى لا يتبع الإنسان هواه فيكون قد اتخذ إلهه هواه بل يقلد الشرع فيقدم ويحجم بإشارته لا باختياره فتتهذب به أخلاقه.
فمنهم من يكونون تعساء ومنهم سعداء
على وجه كامل أو غير كامل
ومن عدم هذه الفضيلة في الخلق والعلم جميعاً فهو الهالك ولذلك قال تعالى:"قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها". ومن جمع الفضيلتين العلمية والعملية فهو العارف العابد وهو السعيد المطلق