ظُلُمات النفس، مما يسميه الناس خمولًا ودَعَة وتهاونًا وغفلة وضجرًا ونحوها.
قال: ولكن كيف يُعان المؤمن على هذه المعجزة النفسية؟ هنا يتبين إعجاز الآية الكريمة؛ فقد ذكر فيها التوكل ثلاث مرات، وافتتحت به وختمت؛ والتوكل هو العزم الثابت كما أوضحنا. وذكرت في الآية بين ذلك هداية المرء سبيله؛ وهذه الإضافة {سُبُلَنَا} تعين أنها هداية الإنسان إلى سبيل نفسه؛ أي: سبيله الباطني الذي هو مناط سعادته في الشعور بالسعادة١. ثم ذكر الصبر على أذى الناس، والأذى لا يقع إلا في حيوانية الإنسان، ولا يؤثر إلا فيها. فكأن الآية مصرحة أن نجاح المؤمن ونفاذه في الحياة لا يكونان أول الأشياء وآخرها إلا بثلاث: العزم الثابت، ثم العزم الثابت، ثم العزم الثابت, وأن الصبر ليس شيئًا يذكر، أو شيئًا يجدي، إن لم يكن صبرًا على أذى الحيوانية في أفظع وحشيتها؛ فالروح لا تؤذي الروح، ولكن الحيوان يؤذي الحيوان, وأن ما يقع من هذه الحيوانية فيسمى اعتداء من غيرك، ويسمى أذى لك، هو شيء ينبغي أن يجعله العزم فخرًا لقوة الاحتمال فيك، كما جعله البطش فخرًا للقدرة عند المعتدي.
وبهذا يكون العزم قد فصل بين نفسك الروحية وبين شخصك الحيواني، ووهبك حقيقة الشعور، وصحح بمعاني روحيتك معاني حيوانيتك، وحينئذ ترى السعادة حق السعادة ما كان هداية لنفسك أو هداية بها، ولو انقلب في الشخص الحيواني منك أذًى وألمًا. ذلك صبر أولي العزم من الرسل.
قال الراوي: وعند ذلك صاح رجل كان في المجلس دسه عامل الخليفة، ليسأل الشيخ سؤالًا على ملأ الناس، يكون كالتشنيع عليه والتشهير به؛ وقد مكر العامل فاختاره شيخًا كبيرًا أعقف، ليرحم الناس رقة عظمه وكبر سنه فلا يعرضون له بأذى، ثم ليكون صوته كأنه صوت الدهر من بعيد. قال الصائح: ذلك أيها الشيخ صبر أولي العزم من الرسل، أو صبر ابنتك على مكاره العيش مع ابن أبي وداعة، لا يجد إلا رُمْقة يُمسك بها الرَّمَق عليها، وقد كانت النعمة لها معرضة، فدفعتها إليه -زعمت- لتهلك به شخصها الحيواني، وتوكلت على الله وألقيت ابنتك في اليم؟
فتربّد وجه الشيخ وأطرق هُنَيَّات، ثم رفع رأسه وقال: أين المتكلم آنفًا؟