قال الجماعة: ما خبره يا أبا معاوية؟ قال: لقد توفي من قريب، فرُئي بعد موته على ظهر الكعبة؛ وسترون أبا عتاب -إذا مات- على منارة هذا المسجد!
فصاح أبو عتاب: تَخَلَّل يا أبا معاوية؛ أما حفظت خبر ابن مسعود:"كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقام رجل، فوقع فيه رجل من بعده، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "تخلل" قال: "مم أتخلل؟ ما أكلت لحمًا؟ " قال: "إنك أكلت لحم أخيك! " ".
فتقلقل الضرير في مجلسه، وتنحنح، وهَمْهَمَ أصواتًا بينه وبين نفسه, وأحس الجماعة شأنه، وقد عرفوا أن له شرًّا مبصرًا، كالذي كان فيه من المزح والدعابة، وشرًّا أعمى هذه بوادره؛ فاستلب ابن جحادة الحديث مما بينهما وقال: يا أبا معاوية، أنت شيخنا وبركتنا وحافظنا، وأقربنا إلى الإمام، وأمسنا به؛ فحدثنا حديث الشيخ كيف صنع في رده على هشام بن عبد الملك١، وما كان بينك وبين الشيخ في ذلك، فإن هذا مما انفردتَ أنت به دون الناس جميعًا، إذ لم يسمعه غير أذنيك، فلم يحفظه غيرك وغير الملائكة.
فأسفر وجه أبي معاوية، وسُرِّيَ عنه، واهتز عطفاه، وأقبل عليهم بعفو القادر, وأنشأ يحدثهم, قال:
إن هشامًا -قاتله الله- بعث إلى الشيخ: أن اكتب لي مناقب عثمان ومساوئ علي. فلما قرأ كتابه كانت داجنة إلى جانبه، فأخذ القرطاس وألقمه الشاة, فلاكته حتى ذهب في جوفها، ثم قال لرسول الخليفة: قل له: هذا جوابك! فخشي الرسول أن يرجع خائبًا فيقتله هشام، فما زال يتحمل بنا، فقلنا: يا أبا محمد, نجه من القتل. فلما ألححنا عليه كتب:"بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد يا أمير المؤمنين، فلو كانت لعثمان "رضي الله عنه" مناقب أهل الأرض ما نفعتك، ولو كانت لعلي "رضي الله عنه" مساوئ أهل الأرض ما ضرتك, فعليك بخُوَيِّصَة نفسك، والسلام".
فلما فصل الرسول قال لي الشيح: إنه كان في خراسان محدث اسمه "الضحاك بن مزاحم الهلالي" وكان فقيه مكتب عظيم فيه ثلاثة آلاف صبي يتعلمون؛ فكان هذا الرجل إذا تعب ركب حمارًا ودار به في المكتب عليهم، فيكون إقبال الحمار على الصبي همًّا وإدباره عنه سرورًا. وما أرى الشيطان إلا قد