للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تعب في مكتبه وأعيا، فركب أمير المؤمنين ليدور علينا نحن يسألنا: ماذا حفظنا من مساوئ علي؟

قلت: فلماذا ألقمتَ كتابه الشاة, ولو غسلتَه أو أحرقتَه كان أفهم له وكان هذا أشبه بك؟ فقال: ويحك يا أبله! لقد شابت البلاهة في عارضيك؛ إن هشامًا سيتقطع منها غيظًا، فما يخفي عنه رسوله أني أطعمت كتابه الشاة، وما يخفي عنه دهاؤه أن الشاة ستبعره من بعد!

قلت: أفلا تخشى أمير المؤمنين؟

قال: ويحك! هذا الأحول عندك أمير المؤمنين؟ أبما ولدته أمه من عبد الملك؟ فهبها ولدته من حائك أو حجام! إن إمارة المؤمنين يا أبا معاوية، هي ارتفاع نفس من النفوس العظيمة إلى أثر النبوة؛ كأن القرآن عرض المؤمنين جميعًا ثم رضي منهم رجلًا للزمن الذي هو فيه، ومتى أصيب هذا الرجل القرآني، فذاك وارث النبي في أمته وخليفته عليها، وهو يومئذ أمير المؤمنين، لا من إمارة الملك والترف، بل من إمارة الشرع والتدبير والعمل والسياسة.

هذا الأحول الذي التف كدودة الحرير في الحرير، وأقبل على الخيل لا للجهاد والحرب، ولكن للهو والحَلْبَة، حتى اجتمع له من جياد الخيل أربعة آلاف فرس لم يجتمع مثلها لأحد في جاهلية ولا إسلام، وعمل الخز وقُطُف الخز، واستجاد الفرش والكسوة، وبالغ في ذلك وأنفق فيه النفقات الواسعة، وأفسد الرجولة بالنعيم والترف، حتى سلك الناس في ذلك سنته، فأقبلوا بأنفسهم على لهو أنفسهم, وصنعوا الخير صنعة جديدة بصرفه إلى حظوظهم، وتركوا الشر على ما هو في الناس، فزادوا الشر وأفسدوا الخير، ولم يعد الفقراء والمساكين عندهم هم والفقراء والمساكين من الناس، بل بطونهم وشهواتهم! ولقد كان الرجل من أغنياء المسلمين يقتصد في حظ نفسه ليسع ببره مائة أو مائتين أو أكثر من إخوانه وذوي حاجته، فعاد هذا الغني يتسع لنفسه ثم يتسع، حتى لا يكفيه أن يأكل رزقه مائة أو مائتين أو أكثر!

إن هذا الإسلام يجعل أحسن المسرات أحسنها في بذلها للمحتاجين، لا في أخذها والاستئثار بها، فهي لا تضيع على صاحبها إلا لتكون له عند الله، وكأن الفقر والحاجة والمسكنة والإنفاق في سبيل الله, كأن هذه أرضون يغرس فيها الذهب والفضة غرسًا لا يؤتي ثمره إلا في اليوم الذي ينقلب فيه أغنى الأغنياء على

<<  <  ج: ص:  >  >>