للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الأرض، وإنه لأفقر الناس إلى درهم من رحمة الله وإلى ما دون الدرهم؛ فيقال له حينئذ: خذ من ثمار عملك، وخذ ملء يديك!

والسلطان في الإسلام هو الشرع مرئيًّا يتابعه، متكلمًا يفهمه الناس، آمرًا ناهيًا يطيعه الناس. ولقد رأى المسلمون هذا الأحول، وتابعوه وسمعوا له وأطاعوا؛ فمنعوا ما في أيديهم، فانقطع الرّفْد، وقل الخير، وشحت الأنفس، وأصبح خيرهم لبطنه وشهواته، وصار الزمان أشبه بناسه، والناس أشبه بمَلِكهم, وملكهم في شهواته "فقير المؤمنين" لا أمير المؤمنين!

إن هذه الإمارة يا أبا معاوية، إنما تكون في قرب الشبه بين النبي ومن يختاره المؤمنون للبيعة. وللنبي جهتان: إحداهما إلى ربه، وهذه لا يطمع أحد أن يبلغ مبلغه؛ والأخرى إلى الناس، وهذه هي التي يقاس عليها "وهي كلها رفق ورحمة وعمل، وتدبير وحياطة وقوة، إلى غيرها مما يقوم به أمر الناس؛ وهي حقوق وتَبِعات ثقيلة تنصرف بصاحبها عن حظ نفسه، وبهذا الانصراف تجذب الناس إلى صاحبها. فإمارة المؤمنين هي بقاء مادة النور النبوي في المصباح الذي يضئ للإسلام، بإمداده بالقدر بعد القدر من هذه النفوس المضيئة. فإن صَلُح التراب أو الماء مكان الزيت في الاستضاءة، صلح هشام وأمثاله لإمارة المؤمنين!

ويل للمسلمين حين ينظرون فيجدون السلطان عليهم بينه وبين النبي مثل ما بين دينين مختلفين. ويل يومئذ للمسلمين! ويل يومئذ للمسلمين!

فلما أتم الضرير حديثه قال ابن جُحادة: إن شيخنا على هذا الجد ليمزح، وسأحدثكم غير حديث أبي معاوية، فقد رأيت الدنيا كأنما عرفت الشيخ ووقفت على حقيقته السماوية فقالت له: اضحك مني ومن أهلي. ولكن وقاره ودينه ارتفعا به أن يضحك بفمه ضحك الجهلاء والفارغين, فضحك بالكلمة بعد الكلمة من نوادره.

لقد كنتُ عنده في مَرْضَته، فعاده "أبو حنيفة" صاحب الرأي، وهو جبل علم شامخ، فطوّل القعود مما يحبه ويأنس به، إذ كانت الأرواح لا تعرف مع أحبابها زمنًا يطول أو يقصر. فلما أراد القيام قال له: ما كأني إلا ثقلتُ عليك. فقال الشيخ: إنك لثقيل علي وأنت في بيتك! وضحك أبو حنيفة كأنه طفل يناغيه أبوه بكلمة ليس فيها معناها، أو أب داعبه طفله بكلمة فيها غير معناها.

<<  <  ج: ص:  >  >>