وجاءه في الغداة قوم يعودونه، فلما أطالوا الجلوس عنده أخذ الشيخ وسادته وقام منصرفًا، وقال لهم: قد شفى الله مريضكم!
فقال الضرير: تلك رَوْحَة من هواء دُنباوَند١، فإن أبا الشيخ كان من تلك الجبال، وقدم إلى الكوفة وأمه حامل؛ فوُلد هنا؛ فكأن في دمه ذلك النسيم تهب منه النفحة بعد النفحة في مثله هذه الكلمات المتنسمة؛ ثم هي روحه الظريفة الطيبة تلمس بعض كلامه أحيانًا، كما تلمس روح الشاعر بعض كلام الشاعر؛ وما رأيت أدق النوادر الساخرة وأبلغها وأعجبها يجيء إلا من ذوي الأرواح الشاعرة الكبيرة البعيدة الغور، كأنما النادرة من رؤية النفس حقيقتان في الشيء الواحد. والإمام في ذلك لا يسخر من أحد، إلا إذا كانت الأرض حين تخرج الثمرة الحلوة تسخر بها من الثمرة المرة.
والعجيب أن النادرة البارعة التي لا تتفق إلا لأقوى الأرواح، يتفق مثلها لأضعف الأرواح؛ كأنها تسخر من الناس كما يسخرون بها فهذا "أبو حسن" معلم الكتاب، جاءه غلامان من صِبيته قد تعلق أحدهما بالآخر؛ فقال: يا معلم، هذا عص أذني. فقال الآخر: ما عضضتها، وإنما عض أذن نفسه. فقال المعلم: وتمكر بي يابن الخبيثة؟ أهو جَمَل طويل العنق حتى ينال أذن نفسه فيعضها!
وطلع الشيخ عليهم وكأنما قرأ نفس أبي معاوية في وجهه المتفتح. ومن عجائب الحكمة أن الذي يُلمَح في عيني المبصر من خوالج نفسه، يُلمح على وجه الضرير مكبرا مجسما. وكان الشيخ لا يأنس بأحد أنسه بأبي معاوية؛ لذكائه وحفظه وضبطه، ولمشاكلة الظرف الروحي بينهما؛ فقال له:
- "فيم كان أبو معاوية؟ ".
- "كان أبو معاوية في الذي كان فيه! ".
- "وما الذي كان فيه؟ ".
- "هو ما تسأل عنه؟ ".
- "فأجبني عما أسأل عنه".
- "قد أجبتك! ".
- "بماذا أجبت؟ ".
- "بما سمعت! ".
١ ناحية من رستاق الري في الجبال الثلجية, وهي بلاد العجم.