للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالأذى من غير أن تلمسها به؛ لتتحرك في طبيعتها معاني دموعها من غير دموعها؛ فإن طال ركود هذه الطبيعة، أوجدت هي لنفسها مصائبها الخفيفة، فكان الزوج إحداها.

وهذا كله غير الجرأة أو البَذَاء فيمن يبغضن أزواجهن، فإن المرأة إذا فركت زوجها لمنافرة الطبيعة بينها وبينه، مات ضعفها الأنثوي الذي يتم به جمالها واستمتاعها والاستمتاع بها، وتعقد بذلك لينها أو تصلب أو استحجر، فتكون مع الرجل بخلاف طبيعتها، فينقلب سكرها النسائي بأنوثتها الجميلة عربدة وخلافًا وشرًّا وصخبًا، ويخرج كلامها للرجل وهو من البغض كأنه في صوتين لا في صوت واحد. ولعل هذا هو الذي أحسه الشاعر العربي بفطرته, من تلك المرأة الصخّابة الشديدة الصوت البادية الغيظ، فضاعف لها في تركيب اللفظ حين وصفها بقوله:

صُلُبَّة الصيحة صَهْصَلِيقُها١

قال أبو معاوية: واستأذنت على "تلك"، ودخلت بعد أن استوثقت أن عندها بعض محارمها؛ فقلت: أنعم الله مساءكِ يا أم محمد. قالت: وأنت فأنعم الله مساءك.

فأصغيتُ للصوت، فإذا هو كالنائم قد انتبه يتمطى في استرخاء، وكأنها تقبلني به وتردني معًا، لا هو خالص للغضب ولا هو خالص للرضى.

فقلت: يا أم محمد، إني جائع لم ألم اليوم بمنزلي. فقامت فقربت ما حضر وقالت: معذرة يا أبا معاوية، فإنما هو جهد المقل، وليس يعدو إمساك الرمق. فقلت: إن الجوعان غير الشهوان؛ والمؤمن يأكل في معًى واحد٢ ولم يخلق الله قمحًا للملوك وقمحًا غيره للفقراء.

ثم سميتُ ومددتُ يدي أتحسس ما على الطبق، فإذا كِسَر من الخبز، معها شيء من الجزر المسلوق، فيه قليل من الخل والزيت؛ فقلت في نفسي: هذا بعض أسباب الشر؛ وما كان بي الجوع ولا سده، غير أني أردت أن أعرف حاضر الرزق في دار الشيخ، فإن مثل هذه القلة في طعام الرجل هي عند المرأة قلة من


١ هذا من عجائب اللغة العربية، إذا زاد المعنى زادوا له في اللفظ. ورواية لسان العرب: ""شديدة" الصيحة" وليست بشيء، فليصححها من يقتني اللسان من القراء.
٢ في بعض الأثر: "المؤمن يأكل في معى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء". وهذا الحديث رمز عجيب لبهيمية من لا يرى الدنيا إلا الدنيا فقط.

<<  <  ج: ص:  >  >>