ومع جَهْد الحرمان جهد شر منه في المقاومة وكف النفس؛ فذلك تعب يهلك به الآدمي، إذ لا يدعه يتقارّ على حالة من الضجر فيما تنازعه الطبيعة إليه، وهو كالمزع في أعصابه، يحسها تُشَد لتُقطَع، ودائمًا تشد لتقطع.
وقد رَهِقني من ذلك الضنى النسوي ما عِيل به صبري وضعف له احتمالي؛ فما أراني يومًا على جِمَام من النفس، ولا ارتياح من الطبع؛ وكيف وفي القلب مادة همه، وفي النفس علة انقباضها، وفي الفكر أسباب مشغلته؟ وقد أوقدتْ سَوْرة الشباب نارها على الدم، تلتعج في الأحشاء؛ وتطير في الرأس، وتصبغ الدنيا بلون دخانها، وفي كل يوم يتخلف منها رماد هو هذا السواد الذي ران على قلبي.
وما حال رجل عذابه أنه رجل، وذله أنه رجل؟ يلبس ثيابه الإنسانية على مثل الوحش في سلاسله وأغلاله، ويحمل عقلًا تسبه الغريزة كل يوم، وتراه من العقول الزُّيُوف لا أثر للفضيلة فيه؛ إذ هو مجنون بالمرأة جنون الفكرة الثابتة، فما يخلو إلى نفسه ساعة أو بعض ساعة إلا أخذته الغريزة مجترحًا جريمة فكر.
وفي دون هذا ينكر المرء عقله؛ وأي عقل تُراه في رجل عزب يقع في خياله أنه متزوج، وأنه يأوي إلى "فلانة"، وأنها قائمة على إصلاح شبابه ونظام بيته، وأنه من أجلها كان عَزَوفًا عن الفحشاء بعيدًا من المنكر؛ وفاءً لها وحفاظًا لعهد الله فيها، وقد دَلَّهَتْه بفنونها التي يبتدعها فكره؛ وهي ساعة تؤاكله على الخِوَان، وساعة تضاحكه، ومرة تعابثه، وتارة تجافيه، وفي كل ذلك هو ناعم بها، يحدثها في نفسه، ويسمَر معها، ويتصنع لها؛ ويعاتبها أحيانًا في رقة، وأحيانًا في جفاء وغلظة, وقد ضربها ذات مرة.
ألا إن فكرة المرأة عندي هي هذا الجنون الذي يرجع بي إلى عشرة آلاف سنة من تاريخ الدنيا، فيرمي بي في كهف أو غابة، فأراني من وراء الدهور كأني أبدأ الحياة منفردًا, وأجدني رجلًا عاريًا متوحشًا متأبدًا ليس من الحيوان ولا من الإنس، دنياه أحجار وأشجار، وهو حجر له نمو الشجر.
لقد توزعت المرأة عقلي فهو متفرق عليها وهي متفرقة فيه، لا أستطيع والله أن أتصورها كاملة، بل هي في خيالي أجزاء لا يجمعها كل؛ هي ابتسامة، هي نظرة، هي ضحكة، هي أغنية، هي جسم، هي شيء، هي هي هي.
أكل تلك المعاني هي المرأة التي يعرفها الناس، أم أنا لي امرأة وحدي؟
وإني على ذلك لأتخوف الزواج وأتحاماه؛ إذ أرى الشارع قد فضح النساء