للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال: ومن الذي تعرض عليه الحياة سلامها وتحياتها وأشواقها في مثل رسالة غرام، ثم يدع هذا ويسألها غضبها وخصامها ولَجَاجتها في مثل قضية من قضايا المحاكم كل ورقة فيها تلد ورقة؟

ثم قال الشاب: لا تحسبن أن المرأة هي السافرة عندنا، ولكن اللذة هي السافرة؛ وما أحكم الشرع! أقول لك وأنا محامٍ يقرر الحقيقة: ما أحكم الشرع الذي لم يرخص في كشف وجه المرأة إلا لضرورة، فإن الواقع في الحياة أن هذا الكشف كثير ما يكون كنقْب اللص على ما وراء النقب؛ وإذا كُسر ما فوق القُفل من الخزانة المكتنز فيها الذهب والجوهر، فالباب الجديد كله سخرية وهُزُؤ من بعدُ!

هذه عقلية شاب محام طُوي عقله على الكتب القانونية، وطوي قلبه على مثلها من غير القانونية, وليس يمتري أحد في أنها عقلية السواد من شبابنا المثقف الذي لبس الجلد الأوروبي. ومن البلاء على هذا الشرق أنه ما برح يناهض المستعمرين ويواثبهم، غافلًا عن معانيهم الاستعمارية التي تناهضه وتواثبه، جاهلًا أن أوروبا تستعمر بالمذاهب العلمية كما تستعمر بالوسائل الحربية؛ وتسوق الأسطول والجيش، والكتاب والأستاذ، واللذة والاستمتاع، والمرأة والحب.

ولو أن عدوًّا رماك بالنار فاستطارت في ثيابك أو متاعك لما دخلك الشك أن عدوك هو النار حتى تفرغ من أمرها. فكيف -لعمري- غفل الشرقيون عن أخلاق نارية حمراء يأكلهم بها المستعمرون أكلًا كأنما ينضجونهم عليها ليكونوا أسهل مساغًا، وألين أَخْذًا، وأسرع في الهضم!

لم أفهم أنا من كلام صاحبنا الشاب ومعانيه إلا أن أوروبا في أعصابه، وأما مصر ونساؤها ورجالها فعلى طرف لسانه لا تكون إلا صيحة، وليس بينه وبينها في الحياة عمل إلا من ناحية لذته بها، لا من ناحية فائدتها منه.

وتلك المعاني كلها مشتق بعضها من بعض، ومرجعها إلى أصل واحد، كالأمراض التي تبتلي الجسم يُمهد شيء منها لشيء، ما دامت طبيعة هذا الجسم زائغة أو مختلة، أو متراجعة إلى الضعف، أو ذاهبة إلى الموت.

وأولئك شبان وقف بهم الشباب موقف بَلَادة، فلا يخطو إلى الرجولة، ولا يكمل بنموه الاجتماعي كما يكمل الرجل الوطني؛ فمن ثم يكون خَوَّارًا لا يستطيع أن يحمل أثقالًا مع أثقاله، ويستوطئ العجز والخمول؛ فلا يكون إلا قاعد الهمة،

<<  <  ج: ص:  >  >>