المحتاج إليها؛ ولا يرضى لنفسه أن يكون هو والذل يعملان في نساء أمته عملًا واحدًا، وأن يصبح هو والكساد لا يأتي منهما إلا أثر متشابه، وأن يبيت هو والفناء في ظلمة واحدة كظلمات القبر، تنقل الأجداث إلى الدور، فتجعل البيت -الذي كان يقتضيه الوطن أن يكون فيه أب وأم وأطفال- بيتًا خاويًا كأنما ثُكل الأم والأطفال، وبقيت فيه البقية من هذا الرجل العزب الميت أكثر تاريخه!
لقد رأيت بعيني أداة العزب وأثاثه في بيته، كأنما يقص عليه كل ذلك قصة شؤمه ووحدته، وكأنما يقول له الفرش والنجد والطراز:"بعني يا رجل وردني إلى السوق؛ فإني هنالك أطمع أن يكون مصيري إلى أب وأم وأولاد، أجد بهم فرحة وجودي، وأصيب من معاشرتهم بعض ثوابي، وأبلي تحت أيديهم وأرجلهم فأكون قد عملت عملًا إنسانيًّا. أما عندك، فأنت خشبة مع الخشب، وأنت خرقة بين الخرق, واسمع الكرسي, إنه يقول: أف, وأصغ إلى فراشك, إنه يقول: تف".
شهد العزب -ورب الكعبة- على نفسه أنه مبتلى بالعافية، مستعبد بالحرية، مجنون بالعقل، مغلوب بالقوة، شقي بالسعادة، وشهدت الحياة عليه -ورب البيت- أنه في الرجولة قاطع طريق؛ يقطع تاريخها ولا يؤمنه، ويسرق لذاتها ولا يكسبها ويخرج على شرعها ولا يدخل فيه، ويعصي واجباتها ولا ينقاد لها. وشهد الوطن -والله- عليه أنه مخلوق فارغ كالواغل على الدنيا؛ إن كان نعمة بصلاحه، انتهت النعمة في نفسها لا تمتد؛ وإن كان بفساده مصيبة امتدت في غيرها لا تنقطع, وأنه شحاذ الحياة أحسن به الأجداد نسلًا باقيًا، ولا يحسن هو بنسل يبقى, وأنه في بلاده كالأجنبي، مهبطه على منفعة وعيش لا غيرهما؛ ثم يموت وجود الأجنبي بالنَّقْلة إلى وطنه، ويموت وجود العزب بالانتقال إلى ربه؛ فيستويان جميعًا في انقطاع الأثر الوطني، ويتفقان جميعًا في انتهاب الحياة الوطنية؛ وأن كليهما خرج من الوطن أبتر لا عَقِبَ له، ويذهبان معًا في لجج النسيان: أحدهما على باخرة، والآخر على النعش.
جاءني بالأمس "أرملة حكومة" وهو مهندس موظف. ومعنى الهندسة الدقة البالغة في الرقْم والخط والنقطة وما احتمل التدقيق؛ ثم الحذر البالغ أن يختل شيء أو ينحرف، أو يتقاصر أو يطول، أو يزيد أو ينقص، أو يدخله السهو أو يقع فيه الخطأ؛ إذا كان الحاضر في العمل الهندسي إنما هو للعاقبة، وكان الخيال للحقيقة؛ وكان الخُرْق هنا لا يقبل الرُّقْعة. ومتى فصلت الأرقام الهندسية من