وجعل الولدان يسقون الواحد بعد الواحد ويتجاوزون من بينهما، وهم كثرة من الناس؛ وكأنما يتخللون الجمع في البحث عن أناس بأعيانهم، ينضَحون غليل أكبادهم بما في تلك الأباريق من رَوْح الجنة ومائها ونسيمها.
ومر بي أحدهم، فمددتُ إليه يدي وقلت: "اسقني, فقد يبست واحترقت من العطش! ".
قال: "ومن أنت؟ ".
قلت: "أبو خالد الأحول الزاهد".
قال: "ألك في أطفال المسلمين ولد افترطتَه صغيرًا فاحتسبته عند الله؟ ".
قلت: "لا".
قال: "ألك ولد كبر في طاعة الله؟ ".
قلت: "لا".
قال: "ألك ولد نالتك منه دعوة صالحة جزاء حقك عليه في إخراجه إلى الدنيا؟ ".
قلت: "لا".
قال: "ألك ولد من غير هؤلاء ولكنك تعبت في تقويمه, وقمت بحق الله فيه؟ ".
قلت: "يرحمك الله، إني كلما قلت "لا" أحسست "لا" هذه تمر على لساني كالمكواة الحامية".
قال: "فنحن لا نسقي إلا آباءنا؛ تعبوا لنا في الدنيا، فاليوم نتعب لهم في الآخرة، وقدموا بين يديهم الطفولة، وإنما قدموا ألسنة طاهرة للدفاع عنهم في هذا الموقف الذي قامت فيه محكمة الحسنة والسيئة. وليس هنا بعد ألسنة الأنبياء أشد طلاقة من ألسنة الأطفال، فما للطفل معنى من معاني آثامكم يحتبس فيه لسانه أو يلجلج به".
قال أبو خالد: فجُنَّ جنوني، وجعلتُ أبحث في نفسي عن لفظة "ابن" فكأنما مُسحت الكلمة من حفظي كما مسحت من وجودي؛ وذكرت صلاتي وصيامي وعبادتي، فما خطرتْ في قلبي حتى ضحك الوليد ضحكًا وجدت في معناه بكائي وندمي وخيبتي.
وقال: يا ويلك! أما سمعت: "إن من الذنوب ذنوبًا لا تكفرها الصلاة ولا الصيام، ويكفرها الغم بالعيال" أتعرف من أنا يا أبا خالد؟
قلت: من أنت يرحمنا الله بك؟
قال: أنا ابن ذاك الرجل الفقير المُعيل، الذي قال لشيخك إبراهيم بن أدهم