للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العابد الزاهد: "طوبى لك! فقد تفرغت للعبادة بالعزوبة" فقال له إبراهيم: "لروعة تنالك بسبب العيال أفضل من جميع ما أنا فيه" وقد جاهد أبي جهاد قلبه وعقله وبدنه، وحمل على نفسه من مقاساة الأهل والولد حملها الإنساني العظيم، وفكر لغير نفسه، واغتم لغير نفسه، وعمل لغير نفسه، وآمن وصبر، ووثق بولاية الله حين تزوج فقيرًا، وبضمان الله حين أعقب فقيرًا؛ فهو مجاهد في سبل كثيرة لا في سبيل واحدة كما يجاهد الغزاة؛ هؤلاء يستشهدون مرة واحدة، أما هو فيستشهد كل يوم مرة في همومه بنا، واليوم يرحمه الله بفضل رحمته إيانا في الدنيا.

أما بلغك قول ابن المبارك وهو مع إخوانه في الغزو: "أتعلمون عملًا أفضل مما نحن فيه؟ قالوا: ما نعلم ذلك. قال: أنا أعلم. قالوا: فما هو؟ قال: رجل متعفف على فقره، ذو عائلة قد قام من الليل، فنظر إلى صبيانه نيامًا متكشفين، فسترهم وغطاهم بثوبه؛ فعمله أفضل مما نحن فيه".

يخلع الأب المسكين ثوبه على صِبْيته ليُدفئهم به ويتلقى بجلده البرد في الليل، إن هذا البرد -يا أبا خالد- تحفظه له الجنة هنا في حر هذا الموقف كأنما مؤتمنة عليه إلى أن تؤديه. وإن ذلك الدفء الذي شمل أولاده يا أبا خالد هو هنا يقاتل جهنم ويدفعها عن هذا الأب المسكين.

قال أبو خالد: ويهُمّ الوليد أن يمضي ويدعني، فما أملك نفسي، فأمد يدي إلى الإبريق فأنشطه من يده، فإذا هو يتحول إلى عظم ضخم قد نشب في كفي وما يليها من أسَلَة الذراع١. فغابت فيه أصابعي، فلا أصابع لي ولا كف, وأبى الإبريق أن يسقيني وصار مُثْلَة بي، وتجسدت هذه الجريمة لتشهد علي، فأخذني الهول والفزع، وجاء إبريق من الهواء، فوقع في يد الوليد، فتركني ومضى.

وقلت لنفسي: ويحك يا أبا خالد! ما أراك إلا محاسبًا على حسناتك كما يحاسب المذنبون على سيئاتهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله!

وبلغتني الصيحة الرهيبة: أين أبو خالد الأحول الزاهد العابد؟

قلت: ها أنا ذا.

قيل: طاوس من طواويس الجنة قد حُصَّ٢ ذيله فضاع أحسن ما فيه! أين


١ الأسلة: ما يلي الكف من الذراع إلى القسم المستغلظ منها. فالأسلة هي العظمة التي تشد عليها ساعة اليد.
٢ حص ذيله: قطع وجذ.

<<  <  ج: ص:  >  >>