للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تجاوب النائحة! فمالت علي السيدة الفرنسية وأسرت إلي: أهاتان امرأتان أم رجلان؟ فقلت لها: إن هذا لحن تاريخي ذو مقطوعتين، كانت تتطارحه كيلوباترا وأنطونيو، وأنطونيو وكيلوباترا. فأعجبت المرأة أشد الإعجاب، وأكبرت منا هذا الذوق المصري أن نكرمها لوجودها في مجلسنا بألحان الملكة المصرية الجميلة، وطربت لذلك أشد الطرب، وملكها غرور المرأة، فجعلت تستعيد: "يا لوعتي يا شقاي يا ضنى حالي" وتقول: ما كان أرق كيلوباترا! ما كان أرق أنطونيو! يا لفتنة الحب الملكي!

قال "الدكتور محمد": ثم خجلت والله من هذا الكلام المخنث، ومن تلفيقي الذي لفقته للمرأة المخدوعة، فانتفضت انتفاضة من يملؤه الغضب، وقد حمي دمه، وفي يده السيف الباتر، وأمامه العدو الوقح؛ وثُرت إلى البيانة فأجريت عليها أصابعي، وكأن في يدي عشرة شياطين لا عشر أصابع، ودوّى في المكان لحن: "اسلمي يا مصر" وجلجل كالرعد في قبة الدنيا، تحت طِبَاق الغيم، بين شرار البرق. فكأنما تزلزل المكان على السيدة الفرنسية وعلينا جميعًا وصرخ أجدادنا يزأرون من أعماق التاريخ: "اسلمي يا مصر"١.

ولما قطعت التفت إليها في كبرياء تلك الموسيقى وعظمتها, وقلت لها: هذا هو غناؤنا نحن الشبان المصريين.

ثم راجعنا صاحبنا الضيف، وأحفيناه بالمسألة، فقال بعد أن دافعنا طويلًا: إنه يحسن شيئًا من الموسيقى, وإن له لحنًا سيطارحنا به لنأخذه عنه. فطرنا بلحنه قبل أن نسمعه، وقلنا له: افعل متفضلًا مشكورًا, وما زلنا حتى نهض متثاقلًا، فجلس إلى البيانة وأطرق شيئًا، كأنه يسوي أوتارًا في قلبه، ثم دق يتشاجى بهذا الصوت:

أضاع غدي من كان في يده غدي ... وحطمني من كان يجهد في سَبْكي!

فإن كنت لا آسى لنفسي فمن إذن؟ ... وإن كنت لا أبكي لنفسي فمن يبكي؟ ٢

قال "الدكتور محمد": فكان الغناء يعتلج في قلبه اعتلاجًا، وكانت نفسه تبكي فيه بكاءها وتغص من غُصّتها، وكأن في الصوت فكرًا حزينًا يستعلن في هم موسيقى، وخيل إلينا بين ذلك أن البيانة انقلبت امرأة مغنية تطارح هذا الرجل


١ هذا هو النشيد الذي وضعناه على لسان سعد باشا زغلول، وهو اليوم النشيد الوطني لمصر كلها، يحفظه جميع الطلبة، والكشافة، والأندية الرياضية، وغيرها.
٢ وضعنا هذين البيتين لبطل القصة، وكم لهذه القصة من أبطال!

<<  <  ج: ص:  >  >>