للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويُرى المكان صدرًا من النهار كأنه نائم بعد سهر الليل، فما تجيئه من ساعة بين الصبح والظهر، إلا وجدته ساكنًا هادئًا كالجسم المستثقل نومًا؛ ولهذا كنت كثيرًا ما أكتب فيه، بل لا أذهب إليه إلا للكتابة.

فإذا كان الظهر أقبل نساء المسرح ومعهن من يطارحهن الأناشيد وألحانها, ومن يُثقفهن في الرقص، ومن يُروِّيهن ما يمثلن إلى غير ذلك مما ابتلتهن به الحياة لتُساقط عليهن الليالي بالموت ليلة بعد ليلة.

وكن إذا جئن رأينَني على تلك الحال من الكتابة والتفكير، فينصرفن إلى شأنهن، إلا واحدة كانت أجملهن*، وأكثر هؤلاء المسكينات يظهرن لعين المتأمل كأن منهن مثل العنز التي كُسر أحد قرنيها، فهي تحمل على رأسها علامة الضعف والذلة والنقص، ولو أن امرأة تتبدد حينًا فلا تكون شيئًا، وتجتمع حينًا فتكون مرة شيئًا مقلوبًا، وأخرى شكلًا ناقصًا، وتارة هيئة مشوهة؛ لكانت هي كل امرأة من هؤلاء المسكينات اللواتي يمشين في المسرّات إلى المخاوف، ويعشن ولكن بمقدمات الموت، ويجدن في المال معنى الفقر، ويتلقَّين الكرامة فيها الاستهزاء، ثم لا يعرفن شابًّا ولا رجلًا إلا وقعت عليهن من أجله لعنة أب أو أم أو زوجة.

وتلك الواحدة التي أومأتُ إليها كانت حزينة متسلبة١, فكأنما جذبها حزنها إلي، وكانت مفكرة فكأنما هداها إلي فكرها، وكانت جميلة فدلها علي الحب، وما أدري -والله- أي نفسينا بدأت فقالت للأخرى: أهلًا.

ورأيتها لا تصرف نظرها عني إلا لترده إلي، ولا ترده إلا لتصرفه؛ ثم رأيتها قد جال بها الغزل جولة في معركته, فتشاغلتُ عنها لا أُريها أني أنا الخصم الآخر في المعركة.

بيد أني جعلت آخذها في مطارح النظر، وأتأملها خلسة بعد خلسة في ثوبها الحريري الأسود، فإذا هو يشُب لونها٢ فيجعله يتلألأ، ويظهر وجهها بلون البدر في تِمّه، ويبديه لعيني أرق من الورد تحت نور الفجر.

ورأيت لها وجهًا فيه المرأة كلها باختصار، يشرق على جسم بَضّ ألين من


* يعني راقصة هناك اسمها "بنوتشيا".
١ يقال: تسلبت المرأة, إذا أحدت، أي: لبست ثياب الحداد.
٢ يزيده ويظهره ويجعله أحفل بالجمال.

<<  <  ج: ص:  >  >>