للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الجمال هو قوة من جاذبية الأرض في مدتها القصيرة، ولكن الفضيلة جاذبية السماء في خلودها الأبدي.

على أنه لا منافرة بين الحب والفضيلة في رأيي، فإن أقوى الحب وأملأه بفلسفة الفرح والحزن، لا يكون إلا في النفس الفاضلة المتورعة عن مقارفة الإثم. وههنا يتحول الحب إلى ملكة سامية في إدراك معاني الجمال، فيكون الوجه المعشوق مصدر وحي للنفس العاشقة؛ وبهذا الوحي والاستمداد منه ينزل المحب من المحبوب منزلة من يرتفع بالآدمية إلى الملائكية١؛ ليتلقى النور منها فنًّا بعد فن، والفرح معنًى بعد معنى، والحزن السماوي فضيلة بعد فضيلة.

فهذا الحب هو طريقة نفسية لاتساع بعض العقول المهيأة للإلهام، كي تحيط بأفراح الحياة وأحزانها، فتبدع للدنيا صورة من صور التعبير الجميلة التي تثير أشواق النفس؛ كأن كل محل وحبيبته من هؤلاء الملهمين، هما صورة جديدة من آدم وحواء، في حالة جديدة من معنى ترك الجنة، لإيجاد الصورة الجديدة من الفرح الأرضي, والحزن السماوي.

والخطر في الحب ألا يكون فيه خطر, فهو حينئذ نداء الجنس، لا يكون إلا دنيئًا ساقطًا مبذولًا، فلا قيمة له ولا وحي فيه؛ إذ يكون احتيالًا من عمل الغريزة جاءت فيه لابسة ثوبها النوراني من شوق الروح لتخدع النفس الأخرى فيتصل بينهما، حتى إذا اتصل بينهما خلعت الغريزة هذا الثوب واستعلنت أنها الغريزة، فانحصر الحب في حيوانيته، وبطلت أشواقه الخيالية أجمع.

قال الراوي:

وعرفت الحسناء هذا كله من عَرْضها نظرة وتلقيها نظرة غيرها، فقالت للأستاذ "ح": أما أن يكون مع أثر الشعر والفكر في الجمال ودعوى الحب، أثر الزهد في الجسم الجميل وادعاء الفضيلة؛ فإن بعيدًا أن يجتمعا.

قال "ح": وأين تُبعدينه -ويحك- عن هذه المنزلة؟ إني لأعرف من هو أعجب من هذا!!

قالت: وماذا بقي من العجب فتعرفه؟


١ نحن لا ننسب للملائكة إلا على خلاف القاعدة المقررة في علم الصرف، ونرى أن مخالفة القاعدة هي القاعدة في هذه اللفظة, وفي ألفاظ أخرى.

<<  <  ج: ص:  >  >>